Thread Back Search




›› ›› ›› ››



بحث علمى عن السيرة النبوية للرسول و طرق تخطيط الرسول علية الصلاة والسلام

اضافه رد
  • 11-22-2025 | 03:52 AM
  • ghlasa



  • بحث علمى عن السيرة النبوية للرسول و طرق تخطيط الرسول علية الصلاة والسلام

    السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، للصلابي.
    هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه الصديق -رضي الله عنه-:
    فشل خطة المشركين والترتيب النبوي الرفيع للهجرة:
    أولًا: فشل خطة المشركين لاغتيال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
    بعد أن مُنيت قريش بالفشل في منع الصحابة -رضي الله عنهم- من الهجرة إلى المدينة، على الرغم من أساليبهم الشنيعة والقبيحة، فقد أدركت قريش خطورة الموقف، وخافوا على مصالحهم الاقتصادية، وكيانهم الاجتماعي القائم بين قبائل العرب؛ لذلك اجتمعت قيادة قريش في دار الندوة للتشاور في أمر القضاء على قائد الدعوة، وقد تحدث ابن عباس في تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} فقال: "فتشاورت قريش بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثائق، يريدون النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: أن أخرجوه، فاطلع الله نبيه على ذلك فبات عليٌّ على فراش النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك الليلة، وخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا عليًّا رد الله كيدهم، فقالوا أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتفوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم الأمر، فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ها هنا لم يكن ينسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاثًا".
    قال سيد قطب في تفسيره للآيات التي تتحدث عن مكر المشركين بالنبي -صلى الله عليه وسلم-: إنه التذكير بما كان في مكة، قبل تغير الحال، وتبدل الموقف، وإنه ليوحي بالثقة واليقين في المستقبل، كما ينبه إلى تدبير قدر الله وحكمته، فيما يقضي به ويأمر: ولقد كان المسلمون الذين يخاطبون بهذا القرآن أول مرة، يعرفون الحالين معرفة الذي عاش ورأى وذاق، وكان يكفي أن يذكروا بهذا الماضي القريب، وما كان فيه من خوف وقلق، في مواجهة الحاضر الواقع وما فيه من أمن وطمأنينة، وما كان من تدبير المشركين ومكرهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مواجهة ما صار إليه من غلبة عليهم، لا مجرد النجاة منهم.
    لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويحبسوه حتى يموت، أو ليقتلوه ويتخلصوا منه، أو ليخرجوه من مكة منفيًّا مطرودًا، ولقد ائتمروا بهذا كله ثم اختاروا قتله، على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل جميعًا، ليتفرق دمه في القبائل، ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلها، فيرضوا بالدية وينتهي الأمر: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
    إنها صورة ساخرة وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة، فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل من تلك القدرة القادرة، قدرة الله الجبار، القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، وهو بكل شيء محيط.
    ثانيًا: الترتيب النبوي للهجرة:
    عن عائشة أم المؤمنين قالت: "كان لا يخطئ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة، والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها، قالت: فلما رآه أبو بكر، قال: ما جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الساعة إلا لأمر حدث.
    قالت: فلما دخل، تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أخرج عني مَن عندك)) فقال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي، وما ذاك، فداك أبي وأمي! فقال: ((إنه قد أذن لي في الخروج والهجرة)) قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: ((الصحبة)) قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أحدًا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذٍ، ثم قال: يا نبي الله، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرَا عبد الله بن أريقط رجلًا من بني الديل بن بكر، وكانت أمه امرأة من بني سهم بن عمرو، وكان مشركًا يدلهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاها لميعادهم.
    قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهم سفرة في جراب، فقطمت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين، ثم لحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر بغار في جبل ثور، فَكَمُنَا فيه ثلاث ليالٍ يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام، شاب، ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرًا يَكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك، حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولي أبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليها حين تذهب ساعة من العشاء، فيبتان في رِسَل-وهو لبن منحتهما ورضيفهم- حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر رجلًا من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هاديًا خريتًا -والخريت الماهر- بالهداية قد غمس حلفًا في آل العاص ابن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر به فهيرة، والدليل فأخذ بهم طريق السواحل".
    ثالثًا: خروج الرسول -صلى الله عليه وسلم- ووصوله إلى الغار:
    لم يعلم بخروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر.
    أما علي فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يتخلف، حتى يؤدي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الودائع، التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته، وكان الميعاد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر -رضي الله عنه- فخرجَا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته، وذلك للإمعان في الاستخفاء حتى لا تتبعهما قريش، وتمنعهما من تلك الرحلة المباركة، وقد اتعدا مع الليل على أن يلقاهما عبد الله بن أريقط في غار ثور بعد ثلاث ليال.
    رابعًا: رِقة النبي -صلى الله عليه وسلم- عند خروجه من مكة:
    وقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند خروجه بالحزورة في سوق مكة، وقال: ((والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت)). ثم انطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه من بطش المشركين، وصرفهم عنهما.
    روى الإمام أحمد عن ابن عباس: "أن المشركين اقتفوا الأثر حتى إذا بلغوا الجبل جبل ثور اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسيج العنكبوت فقالوا: لو دخل ها هنا أحد لم يكن نسيج العنكبوت على بابه". وهذه من جنود الله -عز وجل- التي يخذل بها الباطل، وينصر به الحق؛ لأنه جنود الله جلت قدرته أعم من أن تكون مادية أو معنوية، وإذا كانت مادية فإن خطرها لا يتثمل في ضخامتها فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بجيش ذي لجب، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}. أي: وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو، فجنود الله غير متناهية؛ لأن مقدوراته غير متناهية كما أنه لا سبيل لأحد إلى حصر الممكنات والوقوف على حقائقها وصفاتها ولو إجمالًا، فضلًا عن الاطلاع على تفاصيل أحوالها من كم وكيف ونسبة.
    خامسًا: عناية الله -سبحانه وتعالى- ورعايته لرسوله -صلى الله عليه وسلم-:
    بالرغم من كل الأسباب التي اتخذها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه لم يرتكن إليها مطلقًا وإنما كان كامل الثقة في الله، عظيم الرجاء في نصره وتأييده، دائم الدعاء بالصيغة التي علمه الله إياه قال تعالى: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا} وفي هذه الآية الكريمة دعاء يعلمه الله لنبيه ليدعوه به، ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وكيف تتجه إليه؟ دعاء بصدق المدخل وصدق المخرج، كناية عن صدق الرحلة كلها، بدئها وختامها، أولها وآخرها وما بين الأول والآخر، وللصدق هنا قيمته، بمناسبة ما حاوله المشركون من فتنته عما أنزله الله عليه ليفتري على الله غيره. وللصدق كذلك ظلاله: ظلال الثبات والاطمئنان والنظافة والإخلاص: {وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا} قوة وهيبة أستعلي بهما على سلطان الأرض وقوة المشركين، وكلمة: {مِن لَّدُنْكَ} تصور القرب والاتصال بالله، والاستمداد من عونه مباشرة واللجوء إلى حماه.
    وصاحب الدعوة لا يمكن أن يستمد السلطان إلا من الله، ولا يمكن أن يُهاب إلا بسلطان الله، ولا يمكن أن يستظل بحاكم أو ذي جاه فينصره ويمنعه، ما لم يكن اتجاهه قبل ذلك إلى الله، والدعوة قد تغزو قلوب ذوي السلطان، والجاه، فيصبحون لها جندًا وخدمًا فيفلحون، ولكنها هي لا تفلح إن كانت من جند السلطان وخدمه، فهي من أمر الله، وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه.
    وعندما أحاط المشركون بالغار، وأصبح منهم رأي العين طمأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصديق بمعية الله لهما؛ فعن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- "قال: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: ((ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟))". وفي رواية: ((اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهم)). وسجل الحق -عز وجل- ذلك في قوله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
    سادسًا: خيمة أم معبد في طريق الهجرة:
    وبعد ثلاث ليالٍ من دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الغار، خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه من الغار، وقد هدأ الطلب ويئس المشركون من الوصول إلى رسول الله، وقد قلنا: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر قد استأجرا رجلًا من بني الديل يسمى عبد الله بن أريقط وكان مشركًا، وقد أمناه فدفعَا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما، وقد جاءهما فعلا في الموعد المحدد وسلك بهما طريقًا غير معهودة ليخفي أمرهما عمن يلحق بهم من كفار قريش، وفي الطريق إلى المدينة مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأم معبد في قديد حيث مساكن خزاعة، وهي أخت خنيس بن خالد الخزاعي الذي روى قصتها، وهي قصة تناقلها الرواة وأصحاب السير.
    وقال عنها ابن كثير: وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعض، فعن خالد بن خنيس الخزاعي -رضي الله عنه- صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين خرج من مكة، وخرج منها مهاجرًا إلى المدينة، هو وأبو بكر -رضي الله عنه- ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة -رضي الله عنه- ودليلهما الليثي عبد الله بن الأريقط، مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت برزة جلدة تحتبي بفناء القبة ثم تسقي وتطعم، فسألوهما لحمًا وتمرًا، ليشتروه منها، فلم يصيبوا عندها شيئًا من ذلك، وكان القوم مُرْمِلين مسنتين فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى شاة في كسر الخيمة فقال: ((ما هذه الشاة يا أم معبد؟)) قالت: خلفها الجهد عن الغنم، قال: ((فهل بها من لبن؟)) قالت: هي أجهد من ذلك، قال: ((أتأذنين أن أحلبها؟)) قالت: بلى بأبي أنت وأمي، نعم، إن رأيت بها حلبًا فاحلبها. فدعا بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمسح بيده ضرعها، وسمى الله -عز وجل- ودعا لها في شاتها، فتفاجت عليه، ودرت واجترت ودعا بإناء يُرْبِض الرهط، فحلب فيها ثج حتى علاه البهاء ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، وشرب آخرهم -صلى الله عليه وسلم- ثم أراضو، ثم حلب فيها ثانيًا بعد بدء حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها، ثم بايعها، وارتحلوا عنها.
    فقلما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزَا عجافًا -ضد السمن، وهو جمع عجفاء وهي المهزولة- يتساوكن هُزلًا -يتمايلن من الضعف- ضحى، مخهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب، وقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد، والشاة عازب حيال -بعيدة المرعى لا تأوي إلى البيت إلا في الليل، حيال: لا تحمل. ولا حلوبة في البيت؟ قالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك، من حاله كذا وكذا، قال: صفيه لي يا أم معبد قالت: رأيت رجلًا ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه،حسن الخلق، لم تعبه نحلة ولا تزر به صعلة وسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صهل، وفي عنقه سطع، وفي لحيته كَثاثة، أزج، أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سم وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصل لا هذر ولا نزر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربع لا يأس من طول ولا تقتحمه العين من قصر غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرًا، وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود، محشود، لا عابس ولا مُفنَّد.
    قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلًا".
    سابعًا: سراقة بن مالك يلاحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
    أعلنت قريش في نوادي مكة بأنه من يأتي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- حيًّا أو ميتًا، فله مائة ناقة، وانتشر هذا الخبر عند قبائل الأعراب الذين في ضواحي مكة، وطمع سراقة بن مالك بن جعشم في نيل الكسب الذي أعدته قريش لمن يأتي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأجهد نفسه لينال ذلك، ولكن الله بقدرته التي لا يغلبها غالب، جعله يرجع مدافعًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ما كان جاهدًا عليه.
    قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جُعشم، أن أباه أخبره، أنه سمع سراقة بن جعشم يقول: "جاءنا رُسُل كفار قريش يجعلون في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر، دية كل منها لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني رأيت آنفًا أَسْوِدة بالساحل أُراها محمدًا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم: فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهي من وراء أكمة فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجه الأرض، وخفضت عالية، حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها، أضرهم أم لا، فخرج الذي أكره.
    فركبت فرسي، وعصيت الأزلام؛ تُقَرّب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدَا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضتْ فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم، أن سيظهر أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني ولم يسألاني، إلا أن قال: ((أخف عنا))، فسألته أن يكتب لي في كتاب آمن، فأمر عامر بن فهيرة، فكتب في رقعة من أديم ثم مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
    وكان مما اشتهر عند الناس من أمر سراقة ما ذكره ابن عبد البر، وابن حجر وغيرهما، قال ابن عبد البر: روى سفيان بن عيينة عن أبي موسى عن الحسن: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لسراقة بن مالك: ((كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟)) قال: فلما أُتى عمر بسواري كسرى ومنطقته وتاجه، دعا سراقة بن مالك فألبسه إياها، وكان سراقة رجلًا أزب كثير شعر الساعدين، وقال له: ارفع يديك فقال: الله أكبر، الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز الذي كان يقول: أنا رب الناس، وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابيًّا من بني مدلج، ورفع بها عمر صوته، ثم أركب سراقة، وطيف به المدينة، والناس حوله، وهو يرفع عقيرته مرددًا قول الفاروق: الله أكبر، الحمد الله الذي سلبهما كسرى بن هرمز، وألبسهما سراقة بن جعشم أعرابيًّا من بني مدلج".
    ثامنًا: سبحان مقلب القلوب:
    كان سراقة في بداية أمره يريد القبض على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويسلمه لزعماء مكة لينال مائة ناقة، وإذا بالأمور تنقلب رأسًا على عقب، ويصبح يرد الطلب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعل لا يلقى أحدًا من الطلب إلا رده قائلًا: "كفيتم هذا الوجه"، فلما اطمأن إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصل إلى المدينة المنورة، جعل سراقة يقص ما كان من قصته وقصة فرسه، واشتهر هذا عنه، وتناقلته الألسنة حتى امتلأت به نوادي مكة، فخاف رؤساء قريش أن يكون ذلك سببًا لإسلام بعض أهل مكة، وكان سراقة أمير بني مدلج، ورئيسهم فكتب أبو جهل إليهم:
    سراقة مستغوٍ لنصر محمد بني مدلج إني أخاف سفيهكم
    فيصبح شتى بعد عز وسؤدد عليكم به ألا يفرق جمعكم
    فيصبح شتى بعد عز وسؤدد ..... .... .... ..... .......... ..... .
    فقال سراقة يرد على أبي جهل:
    أبا حكم والله لو كنتَ شاهدًا لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
    علمت ولم تَشْكُك بأن محمدًا رسول وبرهان فمن ذا يقاومه
    عليك فكُف القوم عنه فإنني أرى أمره يومًا ستبدو معالمه
    بأمر تود الناس فيه بأسرهم بأن جميع الناس طُرًا مسالمه
    تاسعًا: استقبال الأنصار لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
    لما سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة، كانوا يغدون كل غداة إلى الحرة، فينتظرون حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يومًا بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفَى رجل من يهود على أُطُم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين، من شهر ربيع الأول فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صامتًا، فطفق من جاء من الأنصار، ممن لم ير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك، فلبث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأُسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم ركب راحلته.
    وبعد أن أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدة التي مكثها بقباء، وأراد أن يدخل المدينة، بعث إلى الأنصار، فجاءوا إلى نبي الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر، فسلموا عليهما، وقالوا: ((اركبا آمنين مطاعين))، فركب نبي الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وحفوا دونهما بالسلاح. وعند وصوله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة أخذ أهل المدينة يقولون: "جاء نبي الله، جاء نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فأشرفوا ينظرون ويقولون: جاء نبي الله، جاء نبي الله".
    فكان يوم فرح وابتهاج لم تر المدينة يومًا مثله، ولبس الناس أحسن ملابسهم كأنهم في يوم عيد، ولقد كان حقًّا يوم عيد؛ لأنه اليوم الذي انتقل فيه الإسلام من ذلك الحيز الضيق في مكة إلى رحابة الانطلاق والانتشار بهذه البقعة المباركة المدينة، ومنها إلى سائر بقائع الأرض. لقد أحس أهل المدينة بالفضل الذي حباهم الله به، وبالشرف الذي اختصهم به أيضًا، فقد صارت بلدتهم موطنًا لإيواء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته المهاجرين، ثم لنصرة الإسلام كما أصبحت موطنًا للنظام الإسلامي العام التفصيلي بكل مقوماته، ولذلك خرج أهل المدينة يهللون في فرح وابتهاج، ويقولون: يا رسول الله، يا محمد، يا رسول الله.
    روى الإمام مسلم بسنده قال: عندما دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، صعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق العلماء والخدم في الطرق ينادون: يا محمدُ، يا رسول الله، يا محمد، يا رسول الله. وبعد هذا الاستقبال الجماهيري العظيم الذي لم يرد مثله في تاريخ الإنسانية سار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نزل في دار أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- فعن أنس -رضي الله عنه- في حديث الهجرة الطويل، وفيه: فأقبل يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب، فإنه ليحدث أهله، إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف لهم، فعجل أن يضع الذي يخترف لهم فيها، فجاء وهي مع فسمع من نبي الله -صلى الله عليه وسلم- ثم رجع إلى أهله، فقال نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أي بيوت أهلن أقرب)) فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله هذه داري وهذا بابي، قال: ((فانطلق فهيئ لنا مقيل...)) ثم نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه.
    وبهذا قد تمت هجرته -صلى الله عليه وسلم- وهجرة أصحابه -رضي الله عنهم- ولم تنته الهجرة بأهدافها وغاياتها، بل بدأت بعد وصول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سالمًا إلى المدينة، وبدأ معها رحلة المتاعب والمصاعب والتحديات، فتغلب عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للوصول للمستقبل الباهر للأمة، والدولة الإسلامية، التي استطاعت أن تصنع حضارة إنسانية رائعة، على أسس من الإيمان والتقوى، والإحسان والعدل، بعد أن تغلبت على أقوى دولتين كانتا تحكمان في العالم، وهما: دولة الفرس ودولة الروم.
    عاشرًا: فوائد ودروس وعبر:
    1- الصراع بين الحق والباطل: صراع قديم وممتد، وهو سنة إلهية نافذة قال -عز وجل-: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}. ولكن هذا الصراع معلوم العاقبة: {كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
    2- مكر خصوم الدعوة بالداعية: أمر مستمر متكرر، سواء عن طريق الحبس أو القتل أو النفي والإخراج من الأرض، وعلى الداعية أن يلجأ إلى ربه وأن يثق به، ويتوكل عليه، ويعلم أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، كما قال -عز وجل-: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
    ومن مكر أهل الباطل وخصوم الدعوة استخدام سلاح المال لإغراء النفوس الضعيفة للقضاء على الدعوة والدعاة، ولذلك رصدوا مائة ناقة لمن يأتي بأحد المهاجرين حيًّا أو ميتًا، فتحرك الطامعون ومنهم سراقة، الذي عاد بعد هذه المغامرة الخاسرة ماديًّا بأوفر ربح وأطيب رزق، وهو رزق الإيمان، وأخذ يعمَّي الطريق عن الطامعين الآخرين الذين اجتهدوا في الطلب، وهكذا يرد الله عن أوليائه والدعاة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}.
    3- إن من تأمل حادثة الهجرة ورأى دقة التخطيط فيها، ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، ومن مقدماتها إلى ما جرى بعدها، يدرك أن التخطيط المسدد بالوحي في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان قائمًا، وأن التخطيط جزء من السنّة النبوية، وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم، وأن الذين يميلون إلى العفوية، بحجة أن التخطيط وإحكام الأمور ليسا من السنّة أمثال هؤلاء مخطئون ويجنون على أنفسهم وعلى المسلمين.
    فعندما حان وقت الهجرة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وشرع النبي -صلى الله عليه وسلم- في التنفيذ نلاحظ الآتي:
    - وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت، رغم ما كان يكتنفها من صعاب وعقبات، وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة كان مدروسًا دراسة وافية، فمثلًا:
    - جاء -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت أبي بكر في وقت شديد الحر -الوقت الذي لا يخرج فيه أحد- بل من عادته لم يكن يأتي فيه، لماذا؟ حتى لا يراه أحد.
    - إخفاء شخصيته -صلى الله عليه وسلم- أثناء مجيئه للصديق، وجاء إلى بيت الصديق متلثمًا؛ لأن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم.
    - أمر -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر أن يُخرِج مَنْ عنده، ولما تكلم لم يبين إلا الأمر بالهجرة دون تحديد الاتجاه.
    - وكان الخروج ليلًا ومن باب خلفي في بيت أبي بكر.
    - بلغ الاحتياط مداه، باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم، والاستعانة بذلك بخبير يعرف مسالك البادية ومسارب الصحراء، ولو كان ذلك الخبير مشركًا ما دام على خلق ورزانة، وفيه دليل على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان لا يحجم عن الاستعانة بالخبرات مهما يكن مصدره.
    - انتقاء شخصيات عاقلة لتقوم بالمعاونة في شؤون الهجرة، ويلاحظ أن هذه الشخصيات كلها تترابط برباط القرابة، أو برباط العمل الواحد، مما يجعل من هؤلاء الأفراد وحدة متعاونة على تحقيق الهدف الكبير.
    - وضع كل فرد من أفراد هذه الأسرة في عمله المناسب، الذي يجيد القيام به على أحسن وجه ليكون أقدر على أدائه والنهوض بتبعاته.
    - فكرة نوم علي بن أبي طالب مكان الرسول، فكرة ناجحة، قد ضللت القوم وخدعتهم، وصرفتهم عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى خرج في جنح الليل تحرسه عناية الله وهم نائمون، ولقد ظلت أبصارهم معلقة بعد اليقظة بمضجع الرسول -صلى الله عليه وسلم- فما كانوا يشكون في أنه ما يزال نائمًا، مسجى في بردته في حين النائم هو علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.
    ونرى احتياجات الرحلة قد دبرت تدبيرًا محكمًا:
    أ- علي: -رضي الله عنه- ينام في فراش الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليخدع القوم، ويُسلَّم الودائع ويلحق بالرسول.
    ب- وعبد الله بن أبي بكر: صاحب المخابرات الصادق، وكاشف تحركات العدو.
    جـ- وأسماء ذات النطاقين: حاملة التموين من مكة إلى الغار، وسط جنون المشركين بحثًا عن محمد -صلى الله عليه وسلم- ليقتلوه.
    د- وعامر بن فهيرة: الراعي البسيط الذي قدم اللحم واللبن إلى صاحبي الغار، وبدد آثار أقدام المسيرة التاريخية بأغنامه، كيلا يتفرسها القوم، لقد كان هذا الراعي يقوم بدور الإمداد والتموين.
    هـ- وعبد الله بن أريقط: دليل الهجرة الأمين، وخبير الصحراء البصير، ينتظر في يقظة إشارة البدء من الرسول، ليأخذ الركب طريقه من الغار إلى يثرب.
    فهذا تدبير للأمور على نحو رائع دقيق، واحتياط للظروف بأسلوب حكيم، ووضع لكل شخص من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب، وسد لجميع الثغرات، وتغطية بديعة لكل مطالب الرحلة، واقتصار على العدد اللازم من الأشخاص من غير زيادة ولا إسراف. لقد أخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالأسباب المعقولة أخذًا قويًّا حسب استطاعته وقدرته.. ومن ثم باتت عناية الله متوقعة.
    4- الأخذ بالأسباب أمر ضروري: إن اتخاذ الأسباب أمر ضروري وواجب، ولكن لا يعني ذلك دائمًا حصول النتيجة؛ ذلك لأن هذا أمر يتعلق بأمر الله، ومشيئته، ومن هنا كان التوكل أمرًا ضروريًا وهو من باب استكمال اتخاذ الأسباب.
    إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعد كل الأسباب، واتخذ كل الوسائل ولكنه في الوقت نفسه مع الله، يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح، وهنا يستجاب الدعاء، وينصرف القوم بعد أن وقفوا على باب الغار، وتسيخ فرس سراقة في الأرض ويكلل العمل بالنجاح.
    5- الإيمان بالمعجزات الحسية: وفي هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وقعت معجزات حسية، وهي دلائل ملموسة على حفظ الله ورعايته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن ذلك -على ما روي- نسيج العنكبوت على فم الغار، ومنها ما جرى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أم معبد، وما جرى له مع سراقة ووعده إياه بأن يلبس سواري كسرى، فعلى الدعاة ألا يتنصلوا من هذه الخوارق، بل يذكروها ما دامت ثابتة بالسنة النبوية على أن ينبهوا الناس على أن هذه الخوارق هي من جملة دلائل نبوته ورسالته -عليه السلام-.
    6- جواز الاستعانة بالكافر المأمون: ويجوز للدعاة أن يستعينوا بمن لا يؤمن بدعوتهم، ما داموا يثقون بهم ويأتمنونهم على ما يستعينون به معهم، فقد رأينا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر استأجرا مشركًا ليدلهم على طريق الهجرة ودفعا إليه راحلتيهما وواعده عند غار ثور، وهذه أمور خطيرة أطلعاه عليها، ولا شك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وثقا به وأمناه، مما يدل على أن الكافر أو العاصي أو غير المنتسب إلى الدعاة، قد يوجد عند هؤلاء ما يستدعي وثوق الدعاة بهم، كأن تربطهم رابطة القرابة، أو المعرفة القديمة أو الجوار، أو عمل معروف، كان قد قدمه الداعية لهم، أو لأن هؤلاء عندهم نوع جيد من الأخلاق الأساسية، مثل الأمانة وحب عمل الخير إلى غير ذلك من الأسباب، والمسألة تقديرية يترك تقديرها إلى فطنة الداعي ومعرفته بالشخص.
    7- دور المرأة في الهجرة: وقد لمعت في سماء الهجرة أسماء كثيرة كان لها فضل كبير ونصيب وافر من الجهاد: منها عائشة بنت أبي بكر الصديق التي حفظت لنا القصة ووعتها وبلغتها للأمة، وأم سلمة المهاجرة الصبور، وأسماء ذات النطاقين التي ساهمت في تموين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه في الغار بالماء والغذاء، وكيف تحملت الأذى في سبيل الله؟ فقد حدثتنا عن ذلك فقالت: "لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر -رضي الله عنه- أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشًا خبيثًا، فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي قالت: ثم انصرفوا...".
    فهذا درس من أسماء -رضي الله عنها- تعلمه لنساء المسلمين جيلًا بعد جيل، كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء، وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم! وأما درسها الثاني البليغ، فعندما دخل عليها جدها أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: "والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قالت: كلا يا أبت، ضع يدك على هذا المال، قالت: فوضع يده عليه، فقال: لا بأس، إذا كان ترك الكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم، قالت: ولا والله ما ترك لنا شيئًا ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك".
    وبهذه الفطنة والحكمة سترت أسماء أباها، وسكنت قلب جدها الضرير، من غير أن تكذب، فإن أباها قد ترك لهم حقًّا هذه الأحجار التي كومتها لتطمئن لها نفس الشيخ، إلا أنه قد ترك لهم معها إيمانًا بالله لا تزلزله الجبال، ولا تحركه العواصف الهوج، ولا يتأثر بقلة أو كثرة في المال، وورثهم يقينًا وثقة به لا حد لها، وغرس فيهم همة تتعلق بمعالي الأمور، ولا تلتفت إلى سفافها فضرب بهم للبيت المسلم مثالًا عز أن يتكرر، وقل أن يوجد نظيره.
    لقد ضربت أسماء -رضي الله عنها- بهذه المواقف لنساء وبنات المسلمين مثلًا، هُن في أمس الحاجة إلى الاقتداء به، والنسج على منواله. وظلت أسماء مع أخواتها في مكة لا تشكو ضيقًا، ولا تظهر حاجة، حتى بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه، وسوده بنت زمعة زوجه، وأسامة بن زيد، وأمه بركة، المكناة بأم أيمن، وخرج معهما عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر فيهم عائشة وأسماء، فقدموا المدينة فأنزلهم في بيت حارثة بن النعمان.
    8- أمانات المشركين عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: في إيداع المشركين ودائعهم عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع محاربتهم له، وتصميمهم على قتله، دليل باهر على تناقضهم العجيب، الذي كانوا واقعين فيه، ففي الوقت الذي كانوا يكذبونه ويزعمون أنه ساحر، أو مجنون أو كذاب، لم يكونوا يجدون فيمن حولهم من هو خير منه أمانة وصدقًا، فكانوا لا يضعون حوائجهم ولا أموالهم التي يخافون عليها إلا عنده، وهذا يدل على أن كفرانهم لم يكن بسبب الشك لديهم في صدقه، وإنما بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق، الذي جاء به، وخوفًا على زعامتهم وطغيانهم، وصدق الله العظيم: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ}.
    وفي أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعلي -رضي الله عنه- بتأدية هذه الأمانات لأصحابها في مكة رغم هذه الظروف الشديدة التي كان من المفروض أن يكتنفها الاضطراب، بحيث لا يتجه التفكير إلا إلى إنجاح خطة هجرته فقط، رغم ذلك فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما كان لينسى أو ينشغل عن رد الأمانات إلى أهلها، حتى ولو كان في أصعب الظروف التي تنسي الإنسان نفسه فضلا عن غيره.
    9- الراحلة بالثمن: لم يقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يركب الراحلة حتى أخذها بثمنها من أبي بكر -رضي الله عنه- واستقر الثمن دينًا بذمته، وهذا درس واضح بأن حملة الدعوة ما ينبغي أن يكونوا عالة على أحد في وقت من الأوقات، فهم مصدر العطاء في كل شيء. إن يدهم إن لم تكن العليا، فلن تكون السفلى، وهكذا يصر عليه السلام أن يأخذها بالثمن، وسلوكه ذلك هو الترجمة الحقة لقوله تعالى: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
    إن الذين يحملون العقيدة والإيمان، ويبشرون بهما ما ينبغي أن تمتد أيديهم إلى أحد إلا الله؛ لأن هذا يتناقض مع ما يدعون إليه، وقد توعد الناس أن يعوا لغة الحال؛ لأنها أبلغ من لغة المقال، وما تأخر المسلمون، وأصابهم ما أصابهم من الهوان إلا يوم أصبحت وسائل الدعوة والعاملين بها خاضعة للغة المادة، ينتظر الواحد منهم مرتبه، ويومها تحول العمل إلى عمل مادي فقد الروح والحيوية، وأصبح الأئمة موظفين.
    إن الصوت الذي ينبعث من حنجرة وراءها الخوف من الله والأمل في رضاه، غير الصوت الذي ينبعث ليتلقى دراهم معدودة، فإذا توقفت توقف الصوت، وقديمًا قالوا: ليست النائحة كالثكلى، ولهذا قل التأثير، وبعد الناس عن جادة الصواب.
    10- الداعية يعف عن أموال الناس: لما عفا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن سراقة عرض عليه سراقة المساعدة فقال: وهذه كنانتيفخذ منها سهمًا، فإنك ستمر بإبلي وغنمي في موضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا حاجةَ لي فيه)). فحين يزهد الدعاة فيما عند الناس يحبهم الناس، وحين يطمعون في أموال الناس ينفر الناس عنهم، وهذا درس بليغ للدعاة إلى الله تعالى.
    11- الجندية الرفيعة والبكاء من الفرح: تظهر أثر التربية النبوية في جندية أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- فأبو بكر -رضي الله عنه- عندما أراد أن يهاجر إلى المدينة وقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبًا)) فقد بدأ في الإعداد والتخطيط للهجرة: فابتاع راحلتين واحتبسهما في داره يعلفهما إعدادًا لذلك، وفي رواية البخاري، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر- وهو الخبط- أربعة أشهر، لقد كان يدرك بثاقب بصره -رضي الله عنه- وهو الذي تربى ليكون قائدًا، أن لحظة الهجرة صعبة قد تأتي فجأة؛ ولذلك هيأ وسيلة الهجرة، ورتب تموينها، وسخر أسرته لخدمة النبي -صلى الله عليه وسلم- وعندما جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخبره أن الله قد أذن له في الخروج والهجرة، بكى من شدة الفرح، وتقول عائشة -رضي الله عنها- في هذا الشأن: "فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ".
    إنها قمة الفرح البشري أن يتحول الفرح إلى بكاء. فالصديق -رضي الله عنه- يعلم أن معنى هذه الصحبة، أنه سيكون وحده برفقة رسول رب العالمين بضعة عشرة يومًا على الأقل، وهو الذي سيقدم حياته لسيده وقائده وحبيبه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فأي فوز في هذا الوجود يفوق هذا الفوز: أن يتفرد الصديق وحده من دون أهل الأرض، ومن دون الصحب جميعًا برفقة سيد الخلق وصحبته كل هذه المدة وتظهر معاني الحب في الله في خوف أبي بكر، وهو في الغار من أن يراهما المشركون، ليكون الصديق مثلًا لما ينبغي أن يكون عليه جندي الدعوة الصادق، مع قائده الأمين، حين يحدق به الخطر من خوف وإشفاق على حياته، فما كان أبو بكر ساعتئذٍ بالذي يخشى على نفسه الموت، ولو كان كذلك لما رافق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه الهجرة الخطيرة، وهو يعلم أن أقل جزائه القتل إن أمسكه المشركون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكنه كان يخشى على حياة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وعلى مستقبل الإسلام إن وقع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قبضة المشركين.
    ويظهر الحس الأمني الرفيع للصديق في هجرته مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في مواقف كثيرة منها، حين أجاب السائل: "من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فقال: هذا هادٍ يهديني السبيل"، فظن السائل بأن الصديق يقصد الطريق، وإنما كان يقصد سبيل الخير، وهذا يدل على حسن استخدام أبي بكر للمعاريض؛ فرارًا من الحرج أو الكذب؛ لأن الهجرة كانت سرًّا وقد أقره الرسول -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، وفي موقف علي بن أبي طالب مثال للجندي الصادق المخلص لدعوة الإسلام، حيث فدى قائده بحياته، ففي سلامة القائد سلامة للدعوة، وفي هلاكه خذلانها ووهنها، فما فعله علي -رضي الله عنه- ليلة الهجرة من بياته على فراش الرسول -صلى الله عليه وسلم-، إذ كان من المحتمل أن تهوي سيوف فتيان قريش على رأس علي -رضي الله عنه- ولكن عليًا -رضي الله عنه- لم يبال بذلك، فحسبه أن يسلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نبي الأمة وقائد الدعوة.
    12- فن قيادة الأرواح، وفن التعامل مع النفوس: يظهر الحب العميق الذي سيطر على قلب أبي بكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة، كما يظهر حب سائر الصحابة أجمعين في سيرة الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-. وهذا الحب الرباني كان نابعًا من القلب، وبإخلاص، لم يكن حب نفاق، أو نابعًا من مصلحة دنيوية، أو رغبة في منفعة أو رهبة لمكروه قد يقع، ومن أسباب هذا الحب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- صفاته القيادية الرشيدة، فهو يسهر ليناموا، ويتعب ليستريحوا، ويجوع ليشبعوا، كان يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، فمن سلك سنن الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع صحابته في حياته الخاصة والعامة، وشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم وكان عمله لوجه الله أصابه شيء من هذا الحب إن كان من الزعماء أو القادة أو المسؤولين في أمة الإسلام.
    إن القيادة الصحيحة هي التي تستطيع أن تقود الأرواح قبل كل شيء، وتستطيع أن تتعامل مع النفوس قبل غيرها، وعلى قدر إحسان القيادة يكون إحسان الجنود، وعلى قدر البذل من القيادة يكون الحب من الجنود، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- رحيمًا وشفوقًا بجنوده وأتباعه، فهو لم يهاجر إلا بعد أن هاجر معظم أصحابه، ولم يبقَ إلا المستضعفون والمفتونون ومن كانت له مهمات خاصة بالهجرة.
    13- وفي الطريق أسلم بريدة الأسلمي -رضي الله عنه- في ركب من قومه: إن المسلم الذي تغلغلت الدعوة في شغاف قلبه لا يفتر لحظة واحدة عن دعوة الناس إلى دين الله تعالى، مهما كانت الظروف قاسية والأحوال مضطربة، والأمن مفقود، بل ينتهز كل فرصة مناسبة لتبليغ دعوة الله تعالى، هذا نبي الله تعالى يوسف -عليه السلام- حينما زج به في السجن ظلمًا، واجتمع بالسجناء في السجن، فلم يندب حظه، ولم تشغله هذه الحياة المظلمة عن دعوة التوحيد وتبليغها للناس ومحاربة الشرك وعبادة غير الله والخضوع لأي مخلوق قال تعالى: {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيْ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}.
    وسورة يوسف عليه السلام مكية، وقد أمر الله تعالى رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يقتدي بالأنبياء والمرسلين في دعوته إلى الله؛ ولذلك نجده -صلى الله عليه وسلم- في هجرته من مكة إلى المدينة، وقد كان مطاردًا من المشركين قد أهدروا دمه وأغروا المجرمين منهم بالأموال الوفيرة، ليأتوا برأسه حيًا أو ميتًا، ومع هذا فلم ينسَ مهمته ورسالته، فقد لقي -صلى الله عليه وسلم- في طريقه رجلًا يقال له بريدة بن الحصيب الأسلمي -رضي الله عنه- في ركب من قومه فدعاهم إلى الإسلام فآمنوا وأسلموا.
    وذكر ابن حجر العسقلاني -رحمه الله-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في طريق هجرته إلى المدينة لقي بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي، فدعاه إلى الإسلام، وقد غزا مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ست عشرة غزوة، وأصبح بريدة بعد ذلك من الدعاة إلى الإسلام، وفتح الله لقومه -أَسْلَم- على يديه أبواب الهداية، واندفعوا إلى الإسلام، وفازوا بالوسام النبوي الذي نتعلم منه منهجًا فريدًا في فقه النفوس، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، أما وإني لم أقلها، ولكن قالها الله -عز وجل-)).
    14- وفي طريق الهجرة أسلم لصّان على يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كان في طريقه -صلى الله عليه وسلم- بالقرب من المدينة لِصَّان من أسلم يقال لهما: المهانان، فقصدهما -صلى الله عليه وسلم- وعرض عليهما الإسلام فأسلما، ثم سألهما عن أسمائهما فقالَا: نحن المهانان، فقال: ((بل أنتما المكرمان)) وأمرهما أن يقدما عليه المدينة، وفي هذا الخبر يظهر اهتمامه -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة إلى الله حيث اغتنم فرصة في طريقه، ودعا اللصين إلى الإسلام فأسلما، وفي إسلام هذين اللصين مع ما ألفاه من حياة البطش والسلب والنهب، دليل على سرعة إقبال النفوس على اتباع الحق، إذا وجد من يمثله بصدق وإخلاص، وتجردت نفس السامع من الهوى المنحرف، وفي اهتمام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتغيير اسمي هذين اللصين من المهانين، إلى المكرمين دليل على اهتمامه -صلى الله عليه وسلم- بسمعة المسلمين، ومراعاته مشاعرهم إكرامًا لهم ورفعًا لمعنوياتهم.
    وإن في رفع معنوية الإنسان تقوية لشخصيته ودفعا له إلى الأمام ليبذل كل طاقته في سبيل الخير والفلاح.
    15- الزبير وطلحة -رضي الله عنهما- ولقاؤهما برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في طريق الهجرة:
    ومما وقع في الطريق إلى المدينة أنه -صلى الله عليه وسلم- لقي الزبير بن العوام، في ركب من المسلمين كانوا تجارًا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر ثيابًا بيضاء، رواه البخاري، وكذا روى أصحاب السير أن طلحة بن عبيد الله لقيهما أيضا وهو عائد من الشام وكساهما بعض الثياب.
    16- أهمية العقيدة والدين في إزالة العداوة والضغائن: إن العقيدة الصحيحة السليمة والدين الإسلامي العظيم لهما أهمية كبرى في إزالة العداوات والضغائن، وفي التأليف بين القلوب والأرواح، وهو دور لا يمكن لغير العقيدة الصحيحة أن تقوم به، وها قد رأينا كيف جمعت العقيدة الإسلامية بين الأوس والخزرج، وأزالت آثار معارك استمرت عقودًا من الزمن، وأغلقت ملف ثارات كثيرة في مدة قصيرة، بمجرد التمسك بها والمبايعة عليها، وقد رأينا ما فعلته العقيدة في نفوس الأنصار، فاستقبلوا المهاجرين بصدور مفتوحة، وتآخوا معهم في مثالية نادرة، لا تزال مثار الدهشة ومضرب المثل، ولا توجد في الدنيا فكرة أو شعار آخر، فعل مثلما فعلت عقيدة الإسلام الصافية في النفوس.
    ومن هنا ندرك السر في سعي الأعداء الدائب إلى إضعاف هذه العقيدة، وتقليل تأثيرها في نفوس المسلمين، واندفاعهم المستمر نحو تزكية النعرات العصبية والوطنية والقومية وغيرها، وتقديمها كبديل للعقيدة الصحيحة.
    17- فرحة المهاجرين والأنصار بوصول النبي -صلى الله عليه وسلم-: كانت فرحة المؤمنين من سكان يثرب من أنصار ومهاجرين بقدوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووصوله إليهم سالمًا، فرحة أخرجت النساء من بيوتهن والولائد، وحملت الرجال على ترك أعمالهم، وكان موقف يهود المدينة موقف المشارك لسكانها في الفرحة ظاهرًا، والمتألم من منافسة الزعامة الجديدة باطنًا، أما فرحة المؤمنين بلقاء رسولهم فلا عجبَ فيها، وهو الذي أنقذهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وأما موقف اليهود فلا غرابة فيه، وهم الذين عرفوا بالملق والنفاق للمجتمع الذي فقدوا السيطرة عليه، وبالغيظ والحقد الأسود ممن يسلبهم زعامتهم على الشعوب، ويحول بينهم وبين سلب أموالها باسم القروض، وسفك دمائها باسم النصح والمشورة، وما زال اليهود يحقدون على كل من يخلص الشعوب من سيطرتهم، وينتهون من الحقد إلى الدس والمؤامرات ثم إلى الاغتيال إن استطاعوا، ذلك دينهم، وتلك جبلتهم.
    ويستفاد من استقبال المهاجرين والأنصار لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشروعية استقبال الأمراء والعلماء عند مقدمهم بالحفاوة والإكرام، فقد حدث ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان هذا الإكرام وهذه الحفاوة نابعين من حب للرسول، بخلاف ما نراه من استقبال الزعماء والحكام في عالمنا المعاصر، ويستفاد كذلك التنافس في الخير وإكرام ذوي العلم والشرف، فقد كانت كل قبيلة تحرص أن تستضيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعرض أن يكون رجاله حُراسًا له، ويؤخذ من هذا إكرام العلماء والصالحين، واحترامهم وخدمتهم.



    18- وضوح سنة التدرج: حيث نلاحظ: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما تقابل مع طلائع الأنصار الأولى لم يفعل سوى ترغيبهم في الإسلام وتلاوة القرآن عليهم، فلما جاءوا في العام التالي بايعهم بيعة النساء على العبادات والأخلاق والفضائل، فلما جاءوا في العام التالي كانت بيعة العقبة الثانية على الجهاد والنصر والإيواء.
    وجدير بالملاحظة أن بيعة الحرب لم تتم إلا بعد عامين كاملين، أي: بعد تأهيل وإعداد استمر عامين كاملين، وهكذا تم الأمر على تدرج، ينسجم مع المنهج التربوي الذي نهجت عليه الدعوة من أول يوم.
    إنه المنهج الذي هدى الله نبيه إلى التزامه، ففي البيعة الأولى بايعه هؤلاء الأنصار الجدد على الإسلام عقيدةً ومنهاجًا وتربيةً، وفي البيعة الثانية بايعه الأنصار على حماية الدعوة، واحتضان المجتمع الإسلامي الذي نضجت ثماره، واشتدت قواعده قوة وصلابة.
    إن هاتين البيعتين أمران متكاملان ضمن المنهج التربوي للدعوة الإسلامية، وإن الأمر الأول هو المضمون، والأمر الثاني، وهو بيعة الحرب، هو السياج الذي يحمي ذلك المضمون، نعم كانت بيعة الحرب بعد عامين من إعلان القوم الإسلام وليس فور إعلانهم.
    بعد عامين إذ تم إعدادهم، حتى غدوا موضع ثقة، وأهلًا لهذه البيعة، ويلاحظ أن بيعة الحرب لم يسبق أن تمت قبل اليوم مع أي مسلم، إنما حصلت عندما وجدت الدعوة في هؤلاء الأنصار، وفي الأرض التي يقيمون فيها، المعقل الملائم الذي ينطلق منه المحاربون، لأن مكة لوضعها عندئذ لم تكن تصلح للحرب.
    وقد اقتضت رحمة الله بعباده أن لا يحملهم واجب القتال، إلى أن توجد لهم دار إسلام، تكون لهم بمثابة معقل يأوون إليه، ويلوذون به، وقد كانت المدينة المنورة أول دار إسلام.
    لقد كانت البيعة الأولى قائمة على الإيمان بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- والبيعة الثانية على الهجرة والجهاد، وبهذه العناصر الثلاثة: الإيمان بالله، والهجرة، والجهاد، يتحقق وجود الإسلام في واقع جماعي ممكن، والهجرة لم تكن لتتم لولا وجود الفئة المستعدة للإيواء، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
    وقد كانت بيعة الحرب هي التمهيد الأخير، لهجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة، وبذلك وجد الإسلام موطنه الذي ينطلق منه دعاة الحق بالحكمة والموعظة، وتنطلق منه جحافل الحق المجاهدة أول مرة، وقامت الدولة الإسلامية المحكمة لشرع الله.
    19- الهجرة تضحية عظيمة في سبيل الله: كانت هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه عن البلد الأمين، تضحية عظيمة عبر عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ((والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت)).
    وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى، وكان واديها يجري نجلًا -يعني: ماءً آجنًا- فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف الله ذلك عن نبيه، قالت: فكان أبو بكر، وعامر بن فهيرة وبلال في بيت واحد فأصابتهم الحمى، فاستأذنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عيادتهم فأذن، فدخلت إليهم أعودهم، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك فدنوت من أبي بكر، فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ فقال:
    كل امرئ مصبَّح في أهله والموت أدنى من شِراك نعله
    قالت: فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول، ثم دنوت من عامر بن فهيرة، فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال:
    إن الجبان حتفُه من فوقه لقد وجدت الموت قبل ذوقه
    كالثور يحمي جلده بِرَوقه كل امرئ مجاهد بطَوقه
    قالت: فقلت: والله ما يدري عامر ما يقول، قلت: وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى اضطجع بفناء البيت، ثم يرفع عقيرته ويقول:
    ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
    وهل أَرِدَنْ يومًا مياه مجنة وهل يَبْدُوَنْ لي شامة وطفيل
    قالت: فأخبرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: ((اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وانقل حماها إلى الجحفة، اللهم بارك لنا في مدنا وصاعه))".
    وقد استجاب الله دعاء نبيه -صلى الله عليه وسلم- وعوفي المسلمون بعدها من هذه الحمى، وغدت المدينة موطنًا ممتازًا لكل الوافدين والمهاجرين إليها من المسلمين على تنوع بيئاتهم ومواطنهم.
    20- مكافأة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأم معبد: وقد روي أنها كثرت غنمها، ونمت حتى جلبت منها جلبًا إلى المدينة، فمر أبو بكر، فرآه ابنها فعرفه، فقال: يا أمه هذا الرجل الذي كان مع المبارك، فقامت إليه فقالت: يا عبد الله مَن الرجل الذي كان معك؟ قال: أَوَما تدرين من هو؟ قالت: لا، قال: هو نبي الله، فأدخلها عليه، فأطعمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأعطاها. وفي رواية: فانطلقت معي وأهدت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من أقط ومتاع الأعراب، فكساها وأعطاها، قال: ولا أعلمه إلا قال: وأسلمت، وذكر صاحب "الوفاء" أنها هاجرت هي وزوجها وأسلم أخوها خنيس واستشهد يوم الفتح.
    21- أبو أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- ومواقف خالدة: قال أبو أيوب الأنصاري -رضي الله عنه-: "ولما نزل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيتي نزل في السفل وأنا وأم أيوب في العُلْو، فقلت له: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك، وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل، فقال: يا أبا أيوب: إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سُفل البيت)) قال: فلقد انكسر حُب لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا مالنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه شيء يؤذيه".
    22- هجرة علي -رضي الله عنه- وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر في المجتمع الجديد: بعد أن أدى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأمانات التي كانت عنده للناس، لحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأدركه بقباء بعد وصوله بليلتين أو ثلاث، فكانت إقامته بقباء ليلتين، ثم خرج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة يوم الجمعة، وقد لاحظ سيدنا علي مدة إقامته بقباء امرأة مسلمة لا زوج لها، ورأى إنسانًا يأتيها من جوف الليل، فيضرب عليها بابها، فتخرج إليها فيعطيها شيئًا معه، فتأخذه، قال: فاستربت بشأنه، فقلت: يا أمة الله، من هذا الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه، فيعطيك شيئا لا أدري ما هو؟ وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك؟ قالت: هذا سهل بن حنيف بن وهب، وقد عرف أني امرأة لا أحد لي، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها، ثم جاءني بها، فقال: احتطبي بهذا، فكان علي -رضي الله عنه- يأثر ذلك من شأن سهل بن حنيف حين هلك عنده بالعراق.
    23- الهجرة النبوية نقطة تحول في تاريخ الحياة: كانت الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة المنورة، أعظم حدث حول مجرى التاريخ، وغيَّر مسيرة الحياة ومناهجها التي كانت تحياها، وتعيش محكومة بها في صورة قوانين ونظم وأعراف، وعادات وأخلاق وسلوك للأفراد والجماعات، وعقائد وتعبدات وعلم ومعرفة، وجهالة وسفه وضلال وهدى، وعدل وظلم.
    24- الهجرة من سنن الرسل الكرام: إن الهجرة في سبيل الله سنة قديمة، ولم تكن هجرة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- بدعًا في حياة الرسل لنصرة عقائدهم، فلئن كان قد هاجر من وطنه ومسقط رأسه من أجل الدعوة؛ حفاظًا عليها وإيجاد بيئة خصبة تتقبلها وتستجيب لها، وتذود عنها، فقد هاجر عدد من إخوانه من الأنبياء قبله من أوطانهم لنفس الأسباب التي دعت نبينا للهجرة.
    وذلك أن بقاء الدعوة في أرض قاحلة لا يخدمها بل يعوق مسارها ويشل حركتها، وقد يعرضها للانكماش داخل أضيق الدوائر، وقد قص علينا القرآن الكريم نماذج من هجرات الرسل وأتباعهم من الأمم الماضية لتبدو لنا في وضوح سنة من سنن الله في شأن الدعوات، يأخذ بها كل مؤمن من بعدهم إذا حيل بينه وبين إيمانه وعزته، واستخف بكيانه ووجوده واعتدى على مروءته وكرامته.
    هذه بعض الفوائد والعبر والدروس، وأترك للقارئ الكريم أن يستخرج غيرها ويستنبط سواها من الدروس والعبر والفوائد الكثيرة النافعة من هذا الحدث العظيم.
    ع1:
    تخطيط النبي -صلى الله عليه وسلم- للهجرة إلى المدينة:
    ج2:
    سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- لمحمد رشيد رضا.
    مؤامرة قريش على قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
    لقد بلغ اضطهاد قريش للمسلمين أنهم اضطروهم إلى الهجرة ففريق هاجر إلى الحبشة، ثم هاجر من بقي مع رسول الله إلى المدينة، ولما علمت قريش تتابع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالهجرة أخيرًا إلى المدينة وقد صارت له شيعة وأنصار من غيرهم، وأنه أجمع على اللحاق بهم، تشاوروا فيما يصنعون في أمره فاجتمعوا في دار الندوة، وهي دار قصيّ بن كلاب، وتشاوروا في حبسه، أو إخراجه عنهم -نفيه- ثم اتفقوا على أن يتخيروا من كل قبيلة منهم فتى شابًّا جَلدًا، فيقتلوه جميعًا فيتفرق دمه في القبائل ولا يقدر بنو عبد مناف على حربهم جميعًا، ويقال: إن هذا كان رأي أبي جهل، وهكذا نجد دائمًا اسم أبي جهل وأبي لهب في كل مؤامرة ضد النبي -صلى الله عليه وسلم- وكل إيذاء واضطهاد كأن لا عمل لهما غير ذلك.
    استعدوا لقتله -عليه الصلاة والسلام- من ليلتهم وأتى جبريل رسول الله فقال: ((لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه))، فلما كانت العتمة اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه، فأمر عليًّا أن ينام على فراشه ويتشح ببرده الأخضر، وأن يتخلف عنه ليؤدي ما كان عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الودائع إلى أربابها، فامتثل أمره، فكان أول من شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله ووقى بنفسه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
    وهنا نقول: إن الأستاذ "مرجوليوث" اعتاد أن يصف أعداء رسول الله برجاحة العقل والنبل ولا يعدم أن يجد كتابًا يذكر كمصدر له من غير تحقيق، فقد قال عن أبي جهل في كتابه "محمد": إنه حاز شهرة عظيمة في العقل، حتى إنه دخل دار الندوة في سنّ الثلاثين في حين أنه كان لا يسمح لأحد من أهل مكة بدخولها إلا إذا بلغ الأربعين، والحقيقة أنهم كانوا لا يدخلون فيها غير قرشي، إلا إن بلغ أربعين سنة بخلاف القرشي تمييزًا له، وبما أن أبا جهل قرشي، فكان يسوغ له دخول دار الندوة قبل الأربعين وليس ذلك لأنه كان شديد الذكاء راجح العقل، بل لأنه كان قرشيًّا.
    الهجرة إلى المدينة 12 ربيع الأول سنة 622 م:
    خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم يرصدونه، فأخذ حفنة تراب وجعل ذلك التراب على رؤوسهم، وهو يتلو قوله تعالى: {فَأغْشَيْنَهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}، ثم انصرف فلم يروه، فلما أفاقوا من غشيتهم جعلوا يطلعون فيرون عليًا نائمًا وعليه برد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقولون: إن محمدًا لنائم، فأقاموا بالباب يحرسون عليًّا يحسبونه النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى يقوم في الصباح، فلما أصبحوا قام عليّ عن الفراش فقالوا له: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، فعلموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد نجا.
    فأما عليّ فأقام بمكة، حتى يؤدي ودائع النبي -صلى الله عليه وسلم- وقصد النبي -صلى الله عليه وسلم- دار أبي بكر -رضي الله عنه- وأعلمه بأن الله قد أذن له بالهجرة، فقال أبو بكر: "الصحبة يا رسول الله"، قال: ((الصحبة))، فبكى أبو بكر -رضي الله عنه- فرحًا واستأجر عبد الله بن أريقط الديلمي، وكان مشركًا ليدل بهما إلى المدينة، وينكب عن الطريق العظمى، ولم يعلم بخروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غير أبي بكر وعليّ وآل أبي بكر، وكان خروجه -صلى الله عليه وسلم- من مكة يوم الخميس أول يوم من ربيع الأول وقدم المدينة لاثنتي عشرة خلت منه، وذلك يوم الاثنين الظهر لثلاث وخمسين سنة من مولده 28 يونيه 622 م.
    ورُوي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال حين خروجه من مكة إلى المدينة: ((اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إليّ، فأسكني أحب البلاد إليك)). رواه الحاكم في "المستدرك". وكان مدة مقامه بمكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة، ثم أتيَا الغار الذي بجبل "ثور" على ثلاثة أميال من جنوب غربي مكة، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يستمع لهما بمكة، ثم يأتيهما ليلًا وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره، ثم يأتيهما بها ليلًا ليأخذا حاجتهما من لبنها وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بطعامهما فأقاما في الغار ثلاثًا، ولما فقدته قريش اتبعوه، ومعهم القائف فقاف الأثر حتى وقف عند الغار، وقال: هنا انقطع الأثر.
    وإذا بنسيج العنكبوت على فم الغار وقد عششت على بابه حمامتان، فقالت قريش: ما وراء هذا شيء، وجعلوا مئة ناقة لمن يرده عليهم، فلما مضت الثلاث وسكن الناس أتاهما دليلهما ببعيرين، فأخذ أحدهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أبي بكر بالثمن؛ لتكون هجرته إلى الله بنفسه وماله رغبة منه -عليه الصلاة والسلام- في استكمال فضل الهجرة إلى الله تعالى، ثم ركبا وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة يخدمهما في الطريق وأتتهما أسماء بسفرة لها، وشقت نطاقها وربطت السفرة فسميت "ذات النطاقين" وحمل أبو بكر جميع ماله، وكان نحو ستة آلاف درهم، وبينما هما في الطريق مجردين من كل سلاح بصر بهما سراقة بن مالك بن جُعشم، فاتبعهما ليردهما، فدعا عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فساخت -غاصت- قوائم فرسه في أرض صلبة، فقال: ادع لي يا محمد ليخلصني الله أن أرد عنك الطلب، فدعا له فخلص، فعاد يتبعهما، فدعا عليه الثانية فساخت قوائم فرسه في الأرض أشد من الأولى، فقال: يا محمد قد علمت أن هذا من دعائك عليّ، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه ولك عهد الله أن أرد عنك الطلب، فدعا له فخلص وعاهدهم أن لا يقاتلهم ولا يخبر عنهم، وأن يكتم عنهم ثلاث ليال.
    فرجع سراقة ورد كل من لقيه عن الطلب بأن يقول ما ها هنا.
    وفي "صحيح البخاري" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "فبينما نحن يومًا جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متقنعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت عائشة: فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستأذن له فدخل، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: ((أخرج مَن عندك))، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: ((فإني قد أذن لي في الخروج))، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((نعم))، قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالثمن، قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز وصنعنا لهم سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين".
    وأسماء بنت أبي بكر الصديق كانت أسن من عائشة وهي أختها لأبيها، وكان عبد الله بن أبي بكر أخا أسماء شقيقها.
    قالت: "ثم لحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر بغار في جبل ثور -جبل بمكة- فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرًا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاءين فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما ورضيفهما، حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر رجلًا من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هاديًا خريتًا -والخريت الماهر بالهداية- قد غمس حلفًا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فجاءهما براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل.
    قال سراقة بن جعشم: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة، إني قد رأيت آنفًا أسودة بالساحل أراها محمدًا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا، انطلقوا بأعيننا ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة، فتحبسها عليّ، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فحططت بزجه الأرض، وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي، فخررت عنها فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا فخرج الذي أكره، فركبت فرسي تقرب بي وعصيت الأزلام حتى إذا سمعت قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا ركبتيها فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة، إذ لأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان.
    فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم بالأمان، فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم، أن سيظهر أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني ولم يسألاني، إلا أن قالا: ((أخف عنها))، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة، فكتب في رقعة من أديم، ثم مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومما وقع لهما في الطريق أنهما لقيا طلحة بن عبيد الله في الطريق، وكان راجعًا من تجارة وكساهما ثيابًا بيضًا، وقيل: لقيهما الزبير كذلك ولعلهما لقياهما معًا أو متعاقبين فكسواه وأبا بكر ما ذكر". اهـ.
    غادر رسول الله مكة مسقط رأسه بعد أن سخر به قومه ورفضوا دعوته، وتمسكوا بعقيدتهم القديمة التي ألفوها، ولم يحكّموا عقولهم، ولم يعترفوا أن عبادة الأصنام من دون الله تعالى كفر، وليس بعد الكفر ذنب ولا بعد الشرك ضلال، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآء}.
    غادر رسول الله مكة وهو آسف لفراق قومه بعد أن صبر على أذاهم وجاهد، وكافح سنين طويلة، فغادرهم ذلك النور الساطع، والعلم الواسع، والهمة العالية، والنفس الأبية، والروح الطاهرة النقية، والشخصية الجذابة المحبوبة، والوجه المشرق الدائم الابتسام، والخلق العظيم، والفم الذي لا ينطق عن الهوى.
    لقد غادرهم ذلك الرسول الأمين الهادي إلى الصراط المستقيم، مبلغ رسالات رب العالمين. ولو علمت قريش الحقيقة وتخلوا عن التعصب، لتمسكوا بأهدابه وتعلقوا بأذياله، واغترفوا من فيض علمه وبحور حكمته، واهتدوا بهديه، وتخلقوا بخلقه، وفازوا بنعيم الدنيا والآخرة.
    إن الرسول بهجرته قد ترك في ظلام دامس فلما وصل المدينة، أشرقت أنواره في جميع أرجائها فخرج القوم يستقبلونه بالبشر والسرور، ويتسابقون لمشاهدة وجهه الصبوح، ويتبركون به ويستضيفونه، ويستمعون إلى حكمه البالغة، وقد عبروا عن شعورهم بذلك النور بقولهم: طلع البدر علينا.
    وصوله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة:
    وصل رسول الله المدينة يوم الاثنين من شهر ربيع الأول قرب الظهر، ونزل قُباء على كلثوم بن الهدم شيخ بني عمرو بن عوف وهم بطن من الأوس، وقباء قرية على ميلين من جنوب المدينة، وهي خصبة بها حدائق من أعناب ونخيل وتين ورمان، وأقام بها رسول الله يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجد قباء وهو الذي أسس على التقوى من أول يوم، ونزل أبو بكر -رضي الله عنه- على حبيب بن إساف بالسنح، ثم قدم عليّ -رضي الله عنه- معه الفواطم، وأم أيمن وولدها أيمن وجماعة من ضعفاء المؤمنين بعد أن أدى عن رسول الله الودائع التي كانت عنده إلى الناس، ولما وصل نزل على كلثوم بن الهدم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وكان علي -رضي الله عنه- في طريقه يسير الليل، ويكمن النهار حتى تفطرت قدماه فاعتنقه النبي -صلى الله عليه وسلم- وبكى رحمة له لما بقدمه من الورم وتفل في يديه وأمرّهما على قدميه، فلم يشكهما بعد ذلك.
    ثم ركب النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة يريد المدينة، وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فصلاها في المسجد الذي ببطن الوادي بمن معه من المسلمين وكانوا مئة، وهي أول جمعة صلاها بالمدينة، وأول خطبة خطبها في الإسلام ثم ركب راحلته "القصوى" يريد المدينة وأرخى زمامها، فكان لا يمر بدار من دور الأنصار، إلا قالوا: هلم يا رسول الله إلى العدد والعدة والمنعة ويعترضون ناقته، فيقول: ((خلوا سبيلها فإنها مأمورة)) حتى بركت عند موضع مسجده اليوم، وكان مربدًا للتمر لغلامين يتيمين، وهما: سهل وسهيل ابنا عمرو من بني النجار، فلما بركت لم ينزل عنها، ثم وثبت، فسارت غير بعيد ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- واضع لها زمامها لا يثنيها به فالتفتت خلفها، ثم رجعت إلى مبركها الأول، فبركت فيه ووضعت جرانها -مقدم عنقها- فنزل عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
    واحتمل أبو أيوب الأنصاري رحل ناقته إلى بيته، فأقام عنده حتى بنَى حجره ومسجده، ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صاحبي المربد -وكانا غلامين- فساومهما بالمربد؛ ليتخذه مسجدًا، فقالَا: "بل نهبه لك يا رسول الله"، فأبَى أن يقبل منهما هبة حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير ذهبًا أدّاها من مال أبي بكر، ثم بناه مسجدًا، وطفِق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينقل معهم اللبن -الطوب النيئ- في بنيانه ويقول -وهو ينقل اللبنَ:

    ((هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهر
    ويقول:
    إن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجره))
    ثم وادع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اليهودَ، وكتب بينه وبينهم كتاب صلح، وموادعة.
    وقبل أن يتم رسول الله بناء مسجده، مات سعد بن زرارة بالذبحة والشهقة، وكان نقيبًا لبني النجار فطلبوا إقامة نقيب مكانه، فقال: ((أنا نقيبكم)) ولم يخص منهم أحدًا دون آخر فكانت من مناقبهم، وأقام رسول الله يبني مسجده من ربيع الأوس إلى صفر، فكان مسجدًا بسيطًا، جدرانه من اللبن، على قاعدة من الحجارة، والسقف من جريد النخل، مقامًا على الجذوع ولم يكن فيه أثر للزخرفة أو النقش وليس به منبر.
    فرح أهل المدينة بمقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- فرحًا شديدًا وقابلوه بالابتهاج، وصعدت ذوات الخدور على الأسطحة، وعن عائشة -رضي الله عنها-: "لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة جلس النساء والصبيان والولائد يقلن جهرًا:
    طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
    وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
    أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
    ولعبت الحبشة بحرابهم فرحًا بقدومه -صلى الله عليه وسلم- وكانت الأنصار يتقربون إلى رسول الله بالهدايا؛ رجالهم ونساؤهم. قال ابن عباس: "ولد النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين، وقبض يوم الاثنين، وابتدئ التاريخ في الإسلام من هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة، وأول مَن أرخ بالهجرة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سنة سبع عشرة من الهجرة، إلا أن التاريخ الهجري يبدأ قبل الهجرة بشهرين، وذلك أنهم جعلوا مبدأ التاريخ المحرم من تلك السنة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد بمكة، ثم كانت الهجرة بعد ذلك في ربيع الأول.
    ذكر الهجرة في القرآن:
    قال تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، وهذا إعلام من الله لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه المتوكل بنصر رسوله على أعداء دينه، وإظهاره عليهم دونهم، أعانوه أو لم يعينوه، إذ يقول لصاحبه، يقول: إذ يقول رسول الله لصاحبه أبي بكر: لا تحزن، وذلك أنه خاف من الطلب أن يعلموا بمكانهما فجزع من ذلك فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (({لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، وإن الله ناصرنا فلن يعلم المشركون بنا ولن يصلوا إلينا)). وقد نصره الله على عدوه وهو بهذه الحال من الخوف، وقلة العدد.
    ع2:
    نتائج الهجرة
    ج1:
    مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، العدد 21: العظات والعبر من هدي هجرة سيد البشر، لعزيزو محمد.

    نتائج الهجرة:
    بالجملة فإن الهجرة تُعَدُّ تحولا من الجمود إلى الحيوية وانتفاضة من نطاق الدعوة الضيق إلى نطاق أوسع انفسحت له رقعة الإسلام بالفتوحات المتوالية في العراق والشام وغيرهما.
    فمن نتائجها:
    1- الإخاء الصادق بين الأنصار والمهاجرين حتى إن الأنصاري ليُقاسم أخاه المهاجري في المطعم والملبس والمسكن.
    ومدح الله صنيع الأنصار في كتابه العزيز.
    2- القضاءُ التام على الحزازات الباطنية والعقد النفسية التي كانت عند القبائل ونمت في الجاهلية.
    3- بناء المسجد النبوي ليكون مقرّاً للعبادة ومدرسة بل جامعة للتفقه في الدين ولتخريج علماء ربانيين صالحين مصلحين يبلغون دعوة الله إلى الناس بكل نزاهة وعفة عن أطماع الدنيا الفانية لأن حياتهم كانت وقْفا على الله عز وجل عملا بقول الله عز وجل لنبيه محمد وأمته بالتبع: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} آخر سورة الأنعام.
    4- انتصار المسلمين في غزوة بدر الكبرى، وهي أول غزوة خاضها المسلمون مع المشركين أكسبتهم هيبة وقوة وعزّاً، فكانت الفارقَ بين الحق والباطل. ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((نُصرت بالرعب مسيرة شهر)). وبتوالي الغزوات والانتصارات فيها عبد الهجرة، قويت شوكة الإسلام وكُسرت شوكة الشرك والضلال..
    فأنجز الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، وتمَّت النعمة الكبرى بفتح مكة في السنة العاشرة للهجرة حيث دخل الناس في دين الله أفواجًا وطهر بيت الله الحرام من الأصنام - فجاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.
    هذه بعض النتائج بإيجاز وهناك أخرى لا يسع المقام ذكرها.
    ماذا يستفيد الداعي من ذكرى الهجرة النبوية؟
    1- لقد سبق أن علمنا أن السبب الرئيسي للهجرة هو اشتداد أذى المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم ومَن آمن معه. فمن هنا يجب على الداعي إلى الله أن يكون متهيئ للهجرة عند كل مضايقة تُضعف إسلامه أو تحاول إخفات إيمانه أو إطفاء شعلته.
    2-اختيار الزمان والمكان المناسبين للهجرة وإلا لم تبق فائدة لهذا التحول.
    3- الإطلاع عن طريق الإذاعة والصحف على أخبار العالم على وجه العموم وعلى أخبار المسلمين على وجه الخصوص. وهذا ضربٌ من الاهتمام بأمور المسلمين.
    - فالداعية الحق لا يكون غرّاً ساذج الفكر، لا يخالط المجتمع ويحتك به بل يجب أن يتعرف الأحوال ويسعى في إيجاد الحلول للمشاكل التي تنزل بالمسلمين.
    4- تأسيس الجماعة المؤمنة في المكان المتخذ موطنا جديدا للانطلاق منه بعد التربية الإسلامية والتدريب الكافي على الخطابة والدعوة وغيرهما لفتح القلوب المغلقة، وما التوفيق والنصر إلا من عند الله. وأختم كلمتي هذه بالنصح الصادق لأولئك الذين هاجروا إلى هذا البلد الحبيب واكتفوا بالجوار ثم لا يدعون إلى الله -عز وجل- على قدر استطاعتهم ولا يغيرون منكرا رأوه - ولو كان التخلف عن الصلاة - فأقول لهم ولكم من أحبّ الإقامة هنا على شاكلتهم إن المقصد من الهجرة ليس الأمن من الفتن فقط وإنما التعلم والتفقه من أجل الانطلاق إلى الدعوة في كل مكان بإخلاص وصدق والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل، والله لا يضيع أجر المحسنين.
    ع2:
    ملامح شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم-
    ج1:
    شخصية الرسول وأثره، لمصطفى السباعي.
    إن محمد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلن يفكر أحد أن يكون مثله أو قريبًا منه، في إشراق روحه، واتصاله بالملأ الأعلى، يتلقى الوحي، ويتنزل عليه الهدى آيات بينات! لن يصل أحد إلى هذا ولا إلى قريب منه، لأن الله ختم بنبوته النبوات، وبشريعته الشرائع..
    إن محمد الإنسان، فهو هو الذي يحرص كل مسلم على أن يكون ظله في الأرض، يتخلق بخلقه، ويهتدي بهديه، ويأتي به في صبره وجهاده وزهده وعبادته وتضحيته وإيثاره ومأكله وملبسه، وما أعتقد أن الله أكرم رسول الله الإنسان بمدع أعلى من هذا المدح: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
    تعال بنا لنتخطى أسوار الزمن حتى نصل إلى عتبه "محمد الرسول الإنسان" فنرى روح الحياة السارية المشرقة في مجتمع فاض بالبطولات والمروءات، حتى يكاد تاريخه يلتحق بالأساطير، لولا أنه حق لا مرية فيه، وصدق لا كذب معه.
    أوصافة الخلقية:
    قالوا في أوصافه --عليه الصلاة والسلام-- إنه كان: ظاهر الوضاءة، متبلج الوجه مشرقه، له نور يعلوه، إذا زال زال تقلعًا رفع الرجل بقوة، يخطو تكفيًا، يميل إلى سنن المشي وقصده، ويمشي هونًا الوقار ، ذريع المشية واسع الخطو كأنما ينحط من صبب العلو، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يمشي وراء أصحابه، ويبدر يبدأ من لقي بالسلام دائم الأحزان، متواصل الفكرة، ليست له راحة، طويل السكت، لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختمه باسم الله، وإذا تكلم أعاد الكلام ثلاثًا ليفهم عنه، كلامه فصل لافضول ولا تقصير، أوتي جوامع الكلم، واختصرت له الحكمة اختصارا ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم منها شيئًا غير أنه لم يكن يذم ذواقًا طعامًا قد ولا يمدحه، ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، فإذا تعدى الحق لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، إذا نطق فعليه البهاء، وإذا صمت فعليه الوقار، أزين الناس منظرًا وأحسنهم وجهًا، وأجودهم وأسخاهم نفسًا، يعضي عطاء من لا يخشى الفقر، وما سئل عن شيء قط فقال: لا، وما خُيّر بين أمرين إلا أختار أيسرهما ما لم يكن إثما.
    تقول عائشة -رضي الله عنها- في مجامع خلقه: "كان خُلُقه القرآن".
    ويقول علي -رضي الله عنه- في وصف شخصيته: "من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه".
    معيشته في نفسه:
    كان لا يتكلف في لباس ولا طعام، يلبس ما يتيسر, وأكثر لبسه المعتاد من لباس الناس وكان يلبس جيد الثياب إذا اقتضى الأمر لمقابلة وفود، أو لمناسبة عيد، وكان يأكل ما يجده، فإن وجد اللحم والحلوى أكل، وإن لم يجد إلا الخبز والزيت أو الخل أكل، وإن لم يجد ما يأكله بات طاويًا، وربما شد على بطنه الحجر من شدة الجوع. وكان ينام على فراض من جلد حشوه ليف، ويجلس على الحصير وينام عليها كثيرًا
    معيشته في بيته:
    كان حلو المعاشرة لزوجاته، كثير المسامرة لهن، متحملا لأخلاقهن، وخاصة غيرتهن وكان يقول: (( خيركم خيركم لأهله)).
    وكان نساؤه يحتملن منه شدة الحال وخشونة العيش، وكان يسره ذلك منهن، فلما فكر يومًا أن يطلبن منه التوسعة والزينة والمطعم، شق ذلك عليه وهجرهن شهرًا لا يكلمهن، ثم نزل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}.
    فلما نزلت هاتان الآيتان خيّر نسائه وبدأ بعائشة، وقال لها: ((ما أحب أن تختاري حتى تستأمري أبويك)). ثم تلا عليها الآيات وفيها التخيير بين، تبقى عنده على شظف العيش وخشونة الحياة، وبين أن يفارقها ويمتعها متاعًا جميلًا، فكان جوابها على الفور: أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة! وكذلك فعل بكل واحدة من نسائه على انفراد فكان جوابها كجواب عائشة، وهي لا تعلم بما أجابت به غيرها.
    وظل هكذا شأنه مع نسائه من التقشف وخشونة العيش حتى توفاه الله. تقول السيدة عائشة -رضي الله عنها-: "ما شبع آل محمد يومين من خبز بر، ولقد كنا نمكث الشهر والشهرين لا يوقد في بيتنا نار، وكان طعامنا إلا التمر والماء، ولقد توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما في بيتنا شيء يأكله ذو كبد، إلا كسرة خبز من شعير على رف لي". وقال أنس: "رهن النبي -صلى الله عليه وسلم- درعًا له على شعير يأخذه لطعام أهله".
    عمله في بيته:
    سئلت عائشة -رضي الله عنها-: "ماذا كان يعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لفي البيت؟ فقالت: كان بشرًا من البشر، يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب شاته، ويعمل ما يعمل الرجل في بيته، فإذا حضرت الصلاة خرج".
    معاملته لأصحابه:
    1- يقول أنس خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خدمت النبي عشر سنين، فما قال لي أف قط، ولا قال لشيء صنعته: لِمَ صنعته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟ وكان لا يظلم أحدًا أجره".
    2- وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "ما ضرب شيئًا قط، ولا ضرب امرأة ولا خادمًا".
    3- وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "دخلت السوق مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليشتري سراويل، فوثب البائع إلى يد النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقبلها فجذب يده، ومنعه قائلًا له: ((هذا تفعله الأعاجم بملوكها وليست بملك، إنما أنا رجل منكم)). ثم أخذ السراويل فأردت أن أحملها، فأبى وقال: ((صاحب الشيء أحق بأن يحمله)).
    4- وكان -عليه الصلاة والسلام- مرة في سفر مع جماعة فلما حان موعد الطعام، عزموا على إعداد شاة يأكلونها. فقال أحدهما: علي ذبحها. وقال الآخر: علي سلخها. وقال الثالث: علي طبخها فقال النبي -عليه السلام-: ((وعلي جمع الحطب)) فقالوا: يا رسول الله، نحن نكفيك العمل فقال: (( علمت أنكم تكفونني، ولكنني أكره أن أتميز عليكم، وأن الله -سبحانه وتعالى- يكره من عبده أن يراه مميزا بين أصحابه)).
    5- جاء رجل من الأنصار يكنى أبا شعيب، فقال لغلام له قصاب: "اجعل لي طعامًا يكفي خمسة، فإني أريد أن أعود النبي -صلى الله عليه وسلم- خامس خمسة، فإني قد عرفت في وجهه الجوع، فدعاهم، فجاء معهم رجل، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لصاحب الدعوة: ((إن هذا قد تبعنا فإن شئت أن تأذن له فأذن له، وإن شئت أن يرجع رجع فقال الأنصاري: لا بل أذنت له)).
    6- وكان من عادته -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه أنه يقبل معذرة المسيء ولا يجابه أحدًا بما يكره، وإذا بلغه عن أحد شيء يكرهه نبّه على خطئه بقوله: ((ما بال أقوام يفعلون كذا)) دون أن يذكر اسمه.
    7- ولم يكن يجب أن يقوم له أحد، وكان يجلس حيث انتهى به المجلس وينزل إلى أسواقهم، فيرشدهم إلى الأمانة، وينهاهم عن الخداع والغش في المعاملات.
    8- وكان من عادته أن يبش إلى كل من يجلس إليه حتى يظن أنه أحب أصحابه إلى قلبه.
    9- ويقرب إليه ذوي السبق في الإسلام والجهاد ولو كانوا غمار الناس.
    10- ويستشر أولي الرأي فيما هو من شؤون السياسة، أو الحرب، أو أمور الدنيا، وينزل عند آرائهم ولو خالفت رأيه كما حصل في معركة بدر وغيرها.
    خشيته وعبادته:
    كان -صلى الله عليه وسلم- كثير المراقبة لله -عز وجل- واسع الخشية منه، عظيم العبادة له، في الليل متهجدًا راكعًا ساجدًا حتى تتورم قدماه، وتفيض عيناه بالدمع من خشية الله حتى يسمع لصدره أزيز كأزيز الرجل من البكاء، فتقول له في ذلك السيدة عائشة -رضي الله عنها-: أتفعل ذلك يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيجيبها: ((أفلا أكون عبدًا شكورا؟!)).
    وكان كثير اللهج باسم الله -عز وجل- فإذا أكل أو شرب أو قام أو قعد أو ابتدأ شيئًا، أو فعل أمرًا بدأ ذلك كله بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا اختتمه اختتمه بالحمد لله رب العالمين. وكان لا يفتر من الدعاء لربه. ومن دعائه -عليه الصلاة والسلام-: ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وعمل لا يرفع، ودعاء لا يسمع، اللهم إني أسألك من الخير كله، ما علمت منه، وما لم أعلم وأعوذ بك من الشر كله، ما علمت منه وما لم أعلم، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك، اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء)).
    ولما كذبته ثقيف في الطائف، وآذته وأغرت به سفهاءها يرجمونه بالأحجار حتى دميت قدماه، اتجه إلى الله خالقه، بهذا الدعاء الرهيب: ((اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين إلي من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أم إلي قريب ملكته أمري؟ إن لم تكن ساخطًا علي فيا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له السماوات والأرض وأشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تحل علي غضبك، أو تنزل علي سخطك، ولك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)).
    رياضته ونظافته:
    ومع هذه العبادة، وذلك التضرع والبكاء، كان طيب النفس متفتحًا للحياة، يتسابق مع عائشة، ويتصارع مع ركانة، ويشهد لعب الحبشة في أعيادهم، وعنى بلباسه ونظافته، فهو كثير الاغتسال، كثير الادهان بالطيب، إذا مر من طريق يعرف الناس أنه قد مر به لما يجدون من طيبه، إذا صافحه المصافح يظل يجد أثر الطيب في يده ثلاثة أيام، وكان لا يفارقه في حضره وسفره مشطه ومقصه ومرآته ومكحلته.
    وبهذا يفترق الأمر كثيرًا عن معنى الدين والتعبد في الديانات الأخرى إذا يعتبرون من مآثر القديس عندهم أنه لم يقرب جسمه الماء طيلة حياته! كما يفترق عن عادة الغربيين في هذه الأزمان إذ رأيناهم يعيبون على الرجل أن يدهن بالطيب فتفوح رائحته الطيبة منه، ولله في خلقه شؤون!
    مزاحه ودعابته:
    ومما يتصل بطيب النفس، حب الدعابة البريئة، والمزاح مع الأصحاب والمترددين عليه، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يحب الدعابة ويبتسم للنكتة اللطيفة، ويمازح أصحابه ويداعبهم بالنكات اللطيفة.
    1- جاءته امرأة عجوز تطلب إليه، يدعو الله لها بدخول الجنة، فقال لها مداعبًا: ((أَوَما علمت أن الجنة لا تدخلها عجوز؟ فولت تبكي، فقال: ردوها، أما قرأت قوله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا})).
    2- وجاءته امرأة من الأنصار تشكو إليه زوجها. فقال: ((أزوجك الذي في عينه بياض؟)) فجزعت إذ طنت أن بعينه عيبًا لم تطلع عليه، فأفهمها، كل إنسان في عينه بياض حول المقلة.
    3- وجاءه أعرابي يسأله أن يمنحه ناقة يركب عليها في سفره فقال له: ((أنا حاملك على ولد ناقة! فقال: وما أصنع به يا رسول الله؟ فقال: وهل تلد الإبل إلا النوق؟)).
    تواضعه وسماحته:
    وقد رأيت فيما مرّ معك من معاملته لأصحابه أنها معاملة نبي كريم، وزعيم محبوب متواضع، وإنسان عظيم استمد عظمته من خصائصه لا من جاهه ولا من نفوذه.
    ومما يروع في سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه ظل هو الإنسان المتواضع تواضع الأنبياء العظماء في مختلف مراحل دعوته، حين كان مضطهدًا، وحين كل منتصرًا، وحين كان وحيدًا، وحين كان سيد الجزيرة العربية المطاع، حين كان في أشد المحن، وحين كان في أوج المجد والانتصار.. وما عهدنا بمثل هذا في تاريخ العظماء.. وما كان محمد عظيمًا فحسب ولكنه رسول الله أيضًا.. يوم فتح الله له مكة، وانهزمت أمام جحافل جيوشه قريش الطاغية الباغية التي ناصبته العداء نحوًا من عشرين عامًا، دخل مكة على جمل له، مطأطئ الرأس خضوعًا لله وشكرًا. وجاءة الرجال خائفين، وفيهم رجل ترتعد فرائصه، فقال له: ((هون عليه، إنما إنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد)). -اللحم المقدد-.
    وظل رسول الله يستمع إلى العبد والعجوز والأرملة والمسكين. يقف في الطريق لكل من يستوقفه، ويصافح كل من يلقاه، فلا يترك يده حتى يكون الذي استوقفه هو الذي يترك يده، يتفقد أصحابه، ويزور مرضاهم ويشهد جنائزهم، ويستمع إلى مشاكلهم، ويشاركهم أحزانهم وأفراحهم.
    رحمته وشفقته:
    كان -صلى الله عليه وسلم- واسع الرحمة بالأطفال والنساء والضعفاء. سمع بكاء صبي وهو في الصلاة فخفف صلته كيلا تفتن أمه التي كانت تصلي وراءه. ومرّ بعد انتهاء إحدى المعارك بجثة امرأة مقتولة فغضب وقال: ((ألم أنهكم عن قتل النساء؟ ما كانت هذه لقاتل)).
    وبلغت رحمته بالحيوان حدًا عجيبًا، فقد أصغى الإناء إبى هرة أرادت الشرب...
    ورأى جملًا هزيلًا فقال:
    ((اتقوا الله في هذه البهائم، أطعموها واركبوها صالحة)).
    وبلغت معاملته للأرقاء، ووصاياه فيهم حدًّا لم يعرفه التاريخ، وكل ذلك دليل على ما فاضت به نفسه الكبيرة من معاني الرحمه والشفقة.
    مشاركته لآلام الشعب:
    اشتكت إليه فاطمة بنته ما تلقاه من أعمال البيت من شدة وعناء، وطلبت إليه أن يخدمها خادمًا، فرفض -عليه السلام- ذلك وقال لها: ((لا أعطيك أدع أهل الصفة -وهم جماعة من الفقراء- تطوي بطونهم من الجوع)).
    وذهبت أم الحكم بنت الزبير وأختها فاطمة تسألان النبي -صلى الله عليه وسلم- معونة على أعمالهما البيتيةفقال لهما: ((سبقكما يتامى بدر)). وأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بيت فاطمة لزوره، ثم عدل فلم يدخل عليها، فبعثت عليًا ليسأل عن سبب عدوله عن زيارتها، فأجابه الرسول: (( إني رأيت على بابها سترًا موشيًا، فعاد علي إلى فاطمة، فأخبرها الخبر، فقالت فاطمة: ليأمرني فيه بما شاء، فقال -عليه السلام-: لترسلي به إلى فلان أهل بيت بهم حاجة)).
    وأراد زيارتها مرة أخرى فعاد كذلك دون أن يدخل عليها، فأرسلت تسأله عن سر ذلك أيضًا، فأجابها: (( إني وجدت في يدها سوارين من فضة، فبلغها ذلك فأرسلتهما إليه، فباعهما النبي -صلى الله عليه وسلم- بدرهمين ونصف، وتصدق بهما على الفقراء)).
    وتستعر هنا بيان أديب العربية الكبير المرحوم مصطفى صادق الرافعي ليعلق على هذه الحادثة فيقول: يا بيت النبي العظيم! وأنت أيضًا لا يرضى لك أبوك حلية بردهيمن ونصف وإن في المسلمين فقراء لا يملكون مثلها؟!
    أي رجل شعبي على الأرض كمحمد -صلى الله عليه وسلم- فيه للأمة كلها غريزة الأب، وفيه على كل أحواله اليقين الذي لا يتحول، وفيه الطبيعة التامة التي يكون بها الحقيقي هو الحقيقي؟ يا بنت النبي العظيم! إن زية بدرهمين ونصف لا تكون زينة في رأي الحق إذا أمكن أن تكون صدقة بدرهمين ونصف! إن فيها حينئذٍ معنى غير معناها! فيها حق النفس غالبًا على حق الجماعة، وفيها الإيمان بالمنفعة حاكمًا على الإيمان بالخير وفيها خطأ من الكمال، إن صح في حساب الحلال والحرام، لم يصح في حساب الثواب والرحمة.
    تعالوا أيها الاشتراكيون، فاعرفو نبيكم الأعظم! إن مذهبكم ما تحيه فضائل الإسلام وشرائعه إن مذهبكم لكالشجرة الذابلة تعلقون عليها الأثمار تشدونها بالخيط، كل يوم تحلون، وكل يوم تربطون ولا ثمرة في الطبيعة.
    ونحن أيضًا نتساءل: أي زعيم من زعماء الدول الاشتراكية في عصرنا الحديث تؤثر عنه مثل هذه الحادثة وأمثالها؟!.
    زهده في الدنيا:
    دخل عليه عمر -رضي الله عنه- يومًا فرآه على حصير فد أثر في جنبه ورفع رأسه في البيت، فلم يجد إلا إهابًا معلقًا -الإهاب كيس من جلد- وقبضة من شعير وحصيرًا تكاد تبلى، فبكى عمر. فقال له: ((ما يبكيك يا ابن الخطاب؟. قال عمر: يا نبي الله! وما لي لا أبكي، وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزائنك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك كسرى وقيصر، في الثمار والأنهار، وأنت نبي الله وصفوته؟ فقال -عليه السلام-: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا))ودخل عليه ابن مسعود -رضي الله عنه- مرة فرآه على تلك الحال. فقال له: ((يا رسول الله، ألا آذنتنا أعملتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئًا؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما لي وللدنيا؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظل تحت شجرة ثم راح وتركها

    بحث علمى عن السيرة النبوية للرسول و طرق تخطيط الرسول علية الصلاة والسلام ghlasa2.gif


    المواضيع المتشابهه:


    fpe ugln uk hgsdvm hgkf,dm ggvs,g , 'vr jo'd' hgvs,g ugdm hgwghm ,hgsghl




    لو عجبك الموضوع اضغط شير لنشر الموضوع مع اصدقائك

      أضـغط هنـآ


    من مواضيعى
    0 حظك اليوم الثلاثاء 5-3-2024| أبراج يوم الثلاثاء 5/3/2024 | برجك اليوم 5 مارس 2024
    0 صور حب 2024 ، صور رومانسية2024 ، صور جديدة غرام وحب وعشق رومنسي 2024
    0 حظك اليوم برج الجوزاء يوم الجمعة 1-1-2024 - 2025 ، توقعات الابراج برج الجوزاء 1 يناير 2024 - 2025
    0 أجمل كلمات السنة الجديدة 2024 ، كلمات شعر العام الجديد 2024 - 2024 - 2025 happy new year
    0 صور الشخص الا ضرب احمد دومة هو صهيب عبد الله انظر المفاجاة
    0 صورة مضحكة تعبر عن مصر ام الدنيا وهتبقا قد الدنيا ، مصر_ام_الدنيا
    0 حظك اليوم برج الدلو الجمعة 26-4-2024 , برج الدلو اليوم 26 ابريل 2024
    0 اجازة 6-اكتوبر-2024 ، عيد القوات المسلحة 2024 ، معلومات وبحث عن حرب 6 اكتوبر 2024
    0 كلمات اغنية مرحب شهر الصوم مرحب لياليك عادت فى امان يا رمضان مكتوبة
    0 نتيجة الشهادة الابتدائية الترم الثاني بالاسم ورقم الجلوس محافظة البحيرة
    0 موعد عرض مسلسل العقرب بطولة منذر ريحانة و لقاء الخميسى فى شهر رمضان 2024
    0 اجمل تصميمات رومانسية 2024 - 2025 , صور حب love 2024 - 2025 , صور جميلة 2024 / 2025
    0 شقة للبيع فى اسكندرية شارع 45 تشطيب سوبر سوبر لوكس +صور
    0 حظك اليوم برج الميزان الاربعاء 6-3-2024 , برج الميزان اليوم 6 مارس 2024
    0 توقعات الابراج 2024 / 2025 كارمن شماس برج الحمل
    0 صور دعاء اسلامى 2024 ، صور دعاء للفيس بوك 2024 ، صور اسلامية جديدة 1445
    0 حظك اليوم برج الحمل الجمعة 8-3-2024 , برج الحمل اليوم 8 مارس 2024
    0 توقعات برج الثور شهر يناير 2018 , توقعات الابراج لشهر يناير 2018
    0 نتيجة الصف الثالث الاعدادى محافظة الغربية برقم الجلوس الترم الثانى من وزراة التربية والتعليم 2024
    0 حظك اليوم برج الدلو السبت22-6-2024 , برج الدلو اليوم 22 يونيو 2024
    0 حظك اليوم برج الجدي الخميس27-6-2024 , برج الجدي اليوم 27 يونيو 2024
    0 حظك اليوم الجمعة 5-9-2025، ابراج اليوم الجمعة5/9/2025,حظك اليوم الجمعة 5سبتمبر 2025
    0 هجوم من انصار مبارك على ميدان التحرير ،سبب غلق ميدان التحرير اليوم الجمعة 19 ابريل
    0 بحث عن العنف والعوامل و الأسباب المؤدية لتأسيس سلوك العنف
    0 حظك اليوم برج الاسد مع ماغى فرح الجمعة 2-1-2024 توقعات الابراج 2 يناير لعام 2024
    0 تحميل فيلم المغامرة و الاكشن Iron Man 3 2024 ، مشاهدة وتحميل فيلم Iron Man 3 2024
    0 اللهم اجعلنا بارين بوالدينا دعاء مكتوب ، اهداء لكل اب و ام
    0 صور تورتة عيد ميلاد 2024 ، صور ومسجات عيد ميلاد 2024
    0 حظك اليوم برج الجوزاء الثلاثاء18-6-2024 , برج الجوزاء اليوم 18 يونيو 2024
    0 صور حب رومانسية 2025,صوررومانسية2025 , صور حب وغرام 2025
    0 معلومات عن عائلة ابيش ، وعائلة الشريف ، اصول العائلات
    0 حظك اليوم الاربعاء 22-4-2024,أبراج يوم الاربعاء 22/4/2024, توقعات الابراج اليوم 22 ابريل 2024
    0 اخبار اليوم 26 فبراير 2024 ، اخبار مصر اليوم 26/2/2024
    0 سعر الحديد فى مصر اليوم السبت 4-5-2024 ، اسعار الحديد فى مصر سعر الطن اليوم 4 مايو2024
    0 حظك اليوم الاحد 6-10-2024, ابراج اليوم الاحد 6/10/2024, برجك اليوم 6 اكتوبر 2024
    0 تفاصيل اغلاق الشات فى الفيس بوك ، لماذا تم اغلاق الدردشة فى الفيس بوك
    0 اجمل بنات مثيرة 2025 ،beautiful girls sexy 2025
    0 الفنانة فاتن حمامة و عادل امام قالو للمشير السيسي نشعر بالتفائل فى المستقبل
    0 توقعات ابراج مواليد اليوم 31-8 31 اغسطس , معلومات عن الابراج اليوم 31/8
    0 مجموعة ديكورات غرف نوم 2024 ، صور احدث غرف نوم مميزة 2024
Powered by vBulletin® Version 3.8.9 Beta 1
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc
adv ghlasa by : ghlasa