السلام عليكم ورحمه الله وبركاته 
فإن قيل : ما  تقولون في صلاة من عدم خشوع  هل يعتد بها أم لا ؟  
قيل : أما الاعتداد بها في  الثواب فلا يعتد له فيها إلا بما عقل فيه منها ، وخشع فيه لربه .  
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها .  
وفي المسند مرفوعا  إن العبد ليصلي  الصلاة ، ولم يكتب له إلا نصفها ، أو ثلثها ، أو [ ص: 522 ]  ربعها حتى بلغ عشرها  .  
وقد علق الله فلاح المصلين  بالخشوع في صلاتهم ، فدل على أن من لم يخشع فليس من أهل الفلاح ، ولو  اعتد له بها ثوابا لكان من المفلحين  . 
وأما الاعتداد بها في  أحكام الدنيا ، وسقوط القضاء فإن غلب عليها الخشوع وتعقلها اعتد بها إجماعا ،  وكانت السنن ، والأذكار عقيبها  جوابر ومكملات لنقصها . 
وإن  غلب عليه عدم الخشوع فيها ،  وعدم تعقلها ، فقد اختلف الفقهاء في وجوب إعادتها ، فأوجبها أبو عبد الله بن حامد من أصحاب أحمد ، وأبو حامد الغزالي  في إحيائه ، لا في  وسيطه وبسيطه . 
[ ص: 523 ] واحتجوا بأنها صلاة لا يثاب عليها ، ولم يضمن له فيها  الفلاح ، فلم تبرأ ذمته منها ، ويسقط القضاء عنه كصلاة المرائي . 
قالوا : ولأن الخشوع والعقل روح الصلاة ومقصودها ولبها ،  فكيف يعتد بصلاة فقدت روحها ولبها ، وبقيت صورتها وظاهرها ؟ . 
قالوا : ولو ترك العبد واجبا من واجباتها عمدا لأبطلها  تركه . وغايته : أن يكون بعضا من أبعاضها بمنزلة فوات عضو من أعضاء العبد المعتق في الكفارة ، فكيف إذا  عدمت روحها ، ولبها ومقصودها ؟ وصارت بمنزلة العبد الميت ، إذا لم يعتد بالعبد المقطوع اليد ، يعتقه  تقربا إلى الله تعالى في كفارة واجبة ، فكيف يعتد بالعبد الميت . 
وقال بعض السلف : الصلاة كجارية تهدى إلى ملك من الملوك  ، فما الظن بمن يهدي إليه جارية شلاء ، أو عوراء ، أو عمياء ، أو مقطوعة اليد والرجل ، أو مريضة ، أو  دميمة ، أو قبيحة ، حتى يهدي إليه جارية ميتة بلا روح وجارية قبيحة ، فكيف بالصلاة التي يهديها العبد ،  ويتقرب بها إلى ربه تعالى ؟ والله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وليس من العمل الطيب صلاة لا روح فيها ، كما  أنه ليس من العتق الطيب عتق عبد لا روح فيه . 
قالوا : وتعطيل القلب عن عبودية الحضور والخشوع : تعطيل  لملك الأعضاء عن عبوديته ، وعزل له عنها ، فماذا تغني طاعة الرعية وعبوديتها ، وقد عزل ملكها وتعطل ؟ .  
قالوا : والأعضاء تابعة  للقلب ، تصلح بصلاحه ، وتفسد بفساده ، فإذا لم يكن قائما بعبوديته ، فالأعضاء  أولى أن لا يعتد بعبوديتها ، وإذا  فسدت عبوديته بالغفلة والوسواس فأنى تصح عبودية رعيته وجنده ومادتهم منه ، وعن أمره يصدرون ، وبه يأتمرون ؟ .  
قالوا : وفي  الترمذي وغيره ، مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم  إن الله لا يستجيب الدعاء من قلب  غافل وهذا إما  خاص بدعاء العبادة ، وإما عام له ولدعاء المسألة ، وإما خاص [ ص: 524 ]  بدعاء المسألة الذي هو أبعد ،  فهو تنبيه على أنه لا يقبل دعاء العبادة الذي هو خاص حقه من قلب  غافل . 
قالوا : ولأن عبودية من غلبت عليه الغفلة والسهو في  الغالب لا تكون مصاحبة للإخلاص ، فإن الإخلاص قصد المعبود وحده بالتعبد . والغافل لا قصد له ، فلا  عبودية له . 
قالوا : وقد  قال الله تعالى فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم  ساهون وليس السهو  عنها تركها ، وإلا لم يكونوا مصلين ، وإنما هو السهو عن واجبها إما عن الوقت كما  قال ابن مسعود وغيره ، وإما عن الحضور والخشوع ، والصواب أنه يعم  النوعين ، فإنه سبحانه أثبت لهم صلاة ، ووصفهم بالسهو عنها فهو السهو عن وقتها الواجب ، أو عن إخلاصها  وحضورها الواجب ، ولذلك وصفهم بالرياء ، ولو كان السهو سهو ترك لما كان هناك رياء .  
قالوا : ولو قدرنا أنه  السهو عن واجب فقط ، فهو تنبيه على التوعد بالويل على سهو الإخلاص والحضور  بطريق الأولى لوجوه :  
أحدها : أن الوقت يسقط في  حال العذر ، وينتقل إلى بدله ، والإخلاص والحضور لا يسقط بحال ، ولا بدل له .  
الثاني : أن واجب الوقت  يسقط لتكميل مصلحة الحضور ، فيجوز الجمع بين الصلاتين للشغل المانع من فعل  إحداهما في وقتها بلا قلب ولا حضور  ، كالمسافر ، والمريض ، وذي الشغل الذي يحتاج معه إلى الجمع ، كما نص  عليه أحمد وغيره .  
فبالجملة : مصلحة الإخلاص  والحضور ، وجمعية القلب على الله في الصلاة أرجح في نظر الشارع من مصلحة  سائر واجباتها ، فكيف يظن به أنه  يبطلها بترك تكبيرة واحدة ، أو اعتدال في ركن ، أو ترك حرف ، أو شدة  من القرآن ، أو ترك تسبيحة أو قول  سمع الله لمن حمده أو قول ربنا ولك الحمد أو ذكر رسول الله صلى  الله عليه وسلم بالصلاة عليه ، ثم  يصححها مع فوت لبها ، ومقصودها الأعظم ، وروحها وسرها .  
فهذا ما احتجت به هذه  الطائفة ، وهي حجج كما تراها قوة وظهورا . 
قال أصحاب القول الآخر : قد ثبت عن النبي صلى الله عليه  وسلم في الصحيح أنه قال إذا أذن [ ص: 525 ]  المؤذن أدبر الشيطان ، وله ضراط  حتى لا يسمع التأذين ، فإذا قضي التأذين أقبل ، فإذا ثوب بالصلاة  أدبر ، فإذا قضي التثويب أقبل حتى  يخطر بين المرء وبين نفسه ، فيذكره ما لم يكن يذكر ، ويقول : اذكر  كذا ، اذكر كذا ، لما لم يكن يذكر ،  حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى ، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين  وهو جالس  .  
قالوا : فأمره النبي صلى  الله عليه وسلم في هذه الصلاة التي قد أغفله الشيطان فيها ، حتى لم يدر كم  صلى بأن يسجد سجدتي السهو ، ولم  يأمره بإعادتها ، ولو كانت باطلة كما زعمتم لأمره بإعادتها .  
قالوا : وهذا هو السر في  سجدتي السهو ، ترغيما للشيطان في وسوسته للعبد ، وكونه حال بينه وبين الحضور  في الصلاة . ولهذا سماهما النبي صلى  الله عليه وسلم " المرغمتين " ، وأمر من سها بهما ولم يفصل في  سهوه الذي صدر عنه موجب السجود بين  القليل والكثير ، والغالب والمغلوب ، وقال لكل سهو سجدتان ولم يستثن من ذلك السهو الغالب ، مع أنه الغالب .  
قالوا : ولأن شرائع الإسلام  على الأفعال الظاهرة ، وأما حقائق الإيمان الباطنة فتلك عليها شرائع  الثواب والعقاب ، فلله تعالى حكمان  : حكم في الدنيا على الشرائع الظاهرة وأعمال الجوارح ، وحكم في الآخرة على  الظواهر والبواطن ، ولهذا كان النبي  صلى الله عليه وسلم يقبل علانية المنافقين ، ويكل أسرارهم إلى الله فيناكحون ، ويرثون ويورثون ، ويعتد بصلاتهم في أحكام  الدنيا ، فلا يكون حكمهم حكم تارك الصلاة ، إذ قد أتوا بصورتها الظاهرة ، وأحكام الثواب والعقاب ليست  إلى البشر ، بل إلى الله ، والله يتولاه في الدار الآخرة . 
نعم لا يحصل مقصود هذه الصلاة من ثواب الله عاجلا ولا  آجلا ، فإن للصلاة [  ص: 526 ] مزيد ثواب عاجل في القلب من قوة إيمانه ، واستنارته ،  وانشراحه وانفساحه ووجود حلاوة العبادة ، والفرح والسرور ، واللذة التي تحصل لمن اجتمع همه وقلبه على  الله ، وحضر قلبه بين يديه ، كما يحصل لمن قربه السلطان منه ، وخصه بمناجاته والإقبال عليه والله  أعلى وأجل . 
وكذلك ما يحصل  لهذا من الدرجات العلى في الآخرة ، ومرافقة المقربين . 
كل هذا يفوته بفوات الحضور والخضوع ، وإن الرجلين ليكون  مقامهما في الصف واحدا ، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض ، وليس كلامنا في هذا كله .  
فإن أردتم وجوب الإعادة  لتحصل هذه الثمرات والفوائد فذاك إليه إن شاء أن يحصلها وإن شاء أن  يفوتها على نفسه ، وإن أردتم  بوجوبها أنا نلزمه بها ونعاقبه على تركها ، ونرتب عليه أحكام تارك الصلاة  فلا . 
وهذا القول الثاني أرجح القولين ، 
والله أعلم .  
أبو عبد الله محمد بن أبي بكر (  ابن قيم الجوزية)